إن البنية الهيكلية للسلطة هي التي تحدد الملامح الأساسية والخارجية للدولة، وبما أن هذه البنى التحتية ثابتة ومستقرة خلال فترات زمنية طويلة، فإن السياسات لا تتغير إلا بالقدر اليسير، وتبقى مرآة تعكس المصالح المتصورة والفهم المشترك لأولئك الذين تنطوي امتيازاتهم الداخلية على النفوذ والسلطة، مع طيف من الخيارات التكتيكية الواقعة ضمن إطار هذه الحدود الضيقة. وبالاستناد إلى المرجعية التاريخية، نجد أن أمريكا وفي مرحلة مبكرة، اتخذت من الانقلابات العسكرية وسيلة للهيمنة وبسط النفوذ على الشعوب الأخرى، وقد تعاظمت شهوتها، وازداد شرهها، وتوسعت دائرة نشاطها بعد الحرب العالمية الثانية، فشملت قارات العالم الثلاث (آسيا، وأفريقيا، وأمريكا الجنوبية)، ففي العام 1952م دعمت تنظيم الضباط الأحرار في مصر فأطاحت بالملك فاروق، وفي عام 1953م عمدت إلى إسقاط حكومة رئيس الوزراء المنتخب محمد مصدق في إيران في عملية سميت بعميلة أجاكس بالتعاون مع المخابرات البريطانية، وفي عام 1954م قامت المخابرات المركزية الأمريكية بما يُعَدّ أشهر انقلاب في أمريكا الجنوبية وفي عملية سرية نفذتها، أطاحت برئيس غواتيمالا جاكوبو أربينز المنتخب ديمقراطياً، وقامت بتثبيت الحكم الديكتاتوري العسكري لكارلوس كاستيلو رئيسا لغواتيمالا متحالفاً بشكل وثيق معها.
وبهذه الانقلابات العسكرية تمدد النفوذ الأمريكي قاريّاً فكانت بمثابة نقطة انطلاق للإطاحة بعشرات الحكومات، وبذلك أصبحت سياسة الانقلابات العسكرية بشكل ثابت هي المعتمدة مع بعض التبديل والتطوير الطفيف في أساليبها ووسائلها.
وقد درجت أمريكا، وحتى تضمن نجاح مخططاتها، على تسوية وتسطيح الميدان، بمجموعة من الإجراءات تجعل من الانقلابات العسكرية أفضل الخيارات المتاحة للناس. وكما شهدنا ذلك في حالة السودان مع انقلاب ٢٥/10/2021م، فالإجراءات الاقتصادية القاسية التي فرضتها صناديق المال الدولية على السودان، والتي حولت آمال الشباب الذين أسقطوا حكومة الإنقاذ إلى حطام، بالإضافة إلى انتشار حالة الانفلات الأمني غير المسبوق، والسيولة الأمنية التي عمت معظم ولايات السودان، وإغلاق الشرق، وحرب الفشقة على الحدود مع إثيوبيا، وبروز نعرات قبلية وجهوية في كافة أنحاء السودان، كانت من أهم سمات تسطيح الميدان للانقلاب، وقد تموضعت أمريكا بشكل مكّنها من الحضور الدائم في كل مراحل انقلاب البرهان في 25/10/2021م، كما أشار بذلك الدبلوماسي الأمريكي السابق مارتن إندك في معرض حديثه الذي امتدح فيه المبعوث الأمريكي فيلتمان حيث قال: "تحية وتقدير كبيرين للدبلوماسية الأمريكية الهادفة كما مارسها المبعوث الأمريكي للقرن الأفريقي في السودان جيفري فيلتمان".
وقد كانت الإجراءات الاستثنائية التي اتخذها البرهان وأطاحت بالشريك المدني بعد ساعات قليلة من مغادرة المبعوث الأمريكي للسودان والذي قام بلقاءات عدة مع كبار القادة العسكرين والمدنيين، كما جاء بصحيفة الواشنطن بوست. ما فسره كثير من المحللين السياسيين على أنه وقوف أمريكي خلف هذه الإجراءات. وقد كشف موقع إكسيوس أن قائد الجيش السوداني البرهان أبلغ الأمريكيين مسبقاً بإمكانية قيام عناصر من داخل الجيش باتخاذ إجراءات ضد الحكومة المدنية، وذلك قبل 48 ساعة فقط من إقدامه على تنفيذ الانقلاب.
وقد تتابعت مواقف أمريكا الداعمة للانقلاب فامتنعت عن وصف ما جرى في السودان بأنه انقلاب، وساقت مجلس الأمن إلى الاتجاه نفسه، وفي سياق متصل طالب وزير الخارجية الأمريكي في خطابه من نيروبي إعادة رئيس الوزراء حمدوك، مختزلاً الأزمة السودانية كلها في شخص حمدوك وإرجاعه إلى رئاسة مجلس الوزراء. وبعد إعادة تعيينه اعترفت أمريكا بالأمر الواقع في السودان، كما اعترفت الأمم المتحدة وسارت هي الأخرى على هذا الدرب، ثم توالت الاعترافات بتلك الإجراءات التي اتخذها البرهان، وهكذا يكون الانقلاب قد نجح وحاز على الاعتراف الدولي. وأخيرا كافأت أمريكا البرهان على نجاحه بأن رفعت تمثيلها الدبلوماسي في السودان إلى سفير بدلا من القائم بالأعمال وذلك بعد ٢٥ عاماً من القطيعة. أما داخلياً فما نراه من مظاهرات لا تلبث إلا أيام معدودات ثم تنحسر، ويتكيف الجميع مع الواقع الجديد.
هكذا تبنت أمريكا أسلوب الانقلابات العسكرية للهيمنة على دول العالم الثالث للسيطرة على ثرواتها، وقد اتبعت الدول الاستعمارية الأخرى النهج نفسه، حتى بلغ عدد الانقلابات العسكرية منذ منتصف القرن الماضي إلى يومنا هذا أكثر من 190 انقلاباً في أفريقيا وحدها، وبذلك يكون قد تم تغيير دور الجيوش في دول ما يسمى بالعالم الثالث كافة ومنها البلاد الإسلامية، وإخراجها من إطارها الذي وجدت من أجله، إلى حماية عروش الحكام الطغاة خدمة للمستعمرين، فلا غرو في اختلاف مسمياتهم؛ رؤساء جمهوريات أو ملوك أو أمراء، أو سلاطين، فقد تحول دور هذه الجيوش الأساسي، فصارت لا يشعر بوجودها إلا من خلال المهرجانات والعروض العسكرية أيام الاحتفالات الرسمية للدولة، أو لقمع الشعوب كما هو الحال في الحروب المنتشرة في أفريقيا.
إن الجيش هو عنوان أية أمة ورمز عزتها وكرامتها، والحافظ لكيانها، والذابّ عن حياضها، فكان لزاماً أن تتم رعاية الجيوش، تدريباً وتأهيلاً، وتسليحاً، والعناية بأفرادها على أعلى مستوى ممكن حتى تؤدي واجبها الذي أنشئت من أجله، فما سادت أمة من أمم الأرض، ورفع شأنها إلا وكان لها جيش قوي، فهيبة الأمة من هيبة جيشها، وكذلك مكانة الأمة بين الشعوب والأمم تظهر في مكانة جيشها، وقد رأينا كيف كانت الأمة الإسلامية هي الرائدة عندما كان جيشها هو الجيش الذي لا يقهر، حيث حمل راية الإسلام من الجزيرة العربية إلى أصقاع الأرض حتى وصل أذربيجان شرقا والمغرب العربي غربا في أقل من عشرين عاماً من قيام دولة الإسلام في المدينة المنورة، ثم عمل على نشر الإسلام حتى وقف على أبواب فينّا حاملا رسالة الهدى والنور، كما ظل يتصدى لتلك الحملات الصليبية رغم كثرتها وضخامة عددها وعتادها.
فهل من رجل نبايعه ليعيد لهذا الجيش مجده، ولهذه الأمة عزها وكرامتها؟!
رأيك في الموضوع