عينت أمريكا الدبلوماسي المخضرم ديفيد ساترفيلد مبعوثاً لها للتعامل مع أزمتي السودان وإثيوبيا، بعد استقالة جيفري فيلتمان، وقد أعلن وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن أن سفير واشنطن لدى أنقرة المنتهية ولايته، والذي يمتلك خبرة طويلة في منطقة الشرق الأوسط سيكون مبعوثاً خاصاً لأمريكا إلى القرن الأفريقي، وأفاد بلينكن في بيان أن "خبرة السفير ساترفيلد الدبلوماسية الممتدة منذ عقود، وعمله في ظل بعض نزاعات العالم الأكثر صعوبة، ستكون أساسية لجهودنا المتواصلة لدعم السلام والازدهار في القرن الأفريقي، وتحقيق مصالح أمريكا في هذه المنطقة الاستراتيجية".
إن تقديم جيفري فيلتمان استقالته قبل ثلاثة أشهر من نهاية فترة عمله مقرونة مع الإطراء الزائد على المبعوث الأمريكي الجديد من جهة وزير الخارجية الأمريكي، تشير بشكل واضح إلى فشل فيلتمان في مهمته في كل من إثيوبيا والسودان، حيث فشلت جبهة تحرير تيغراي في إسقاط الحكومة الإثيوبية، كما فشل انقلاب عبد الفتاح البرهان في 25/10/2021 في إيجاد الاستقرار السياسي في السودان، بالرغم من الدور الكبير الذي لعبته أمريكا في ذلك عبر مبعوثها فيلتمان، ما لزم أن يُستبدل به مبعوث أمريكي جديد يقوم بالمهمة، وتحقيق مصالح أمريكا في هذه المنطقة الاستراتيجية.
إن هذا التعيين قد فتح ثقباً في ذاكرة التاريخ، ظهر من خلاله أن المبعوثين الدوليين قد تقمصوا شخصيات المندوبين السامين إبان حقبة الاستعمار القديم، ويقومون بالأعمال نفسها، فقد كان اللورد كرومر في مصر أكبر من مجرد مندوب سامٍ لكي يضمن بقاءها تحت سيطرة الاستعمار البريطاني لأطول فترة ممكنة، متحكماً في ثرواتها وجيشها، وضاغطاً على فلاحيها، وكذا المندوب السامي الفرنسي هنري غورو الذي عمد إلى فصل لبنان عن سوريا، متخذاً منها جسراً ذا رأس نصراني، وبموازاة ذلك عمل هيربرت صامويل، السياسي البريطاني ذو الأصول اليهودية، مندوباً سامياً لبريطانيا في فلسطين، والذي عمل على وضع اللبنة الخبيثة التي قام عليها كيان يهود في قلب البلاد الإسلامية. وهكذا عمل المندوبون المنتشرون في كل أرجاء العالم على تحقيق مصالح بلادهم على حساب الشعوب المستعمرة.
وبقدر من التطوير والتحديث في الأساليب والوسائل الأكثر مكراً وخبثاً ودهاء وأشد فتكاً، استطاع المبعوثون الدوليون إشعال الحروب الأهلية، والقيام بالانقلابات العسكرية، ونهب الثروات، وإثارة النعرات الإثنية والقبلية والجهوية، وغيرها من الأساليب التي تسببت في الفرقة والشتات وتمزيق البلاد. ولا فرق في ذلك بين الفرنسي والبريطاني والروسي والأمريكي، فكما استخدمت بريطانيا عصبة الأمم كوسيلة لتمرير مخططاتها وإعطائها سبقة دولية، فكذا تفننت أمريكا في استخدام الأمم المتحدة للسيطرة وبسط النفوذ، والتحكم في مصير الشعوب، كما قال عنها الكاتب والمفكر الأمريكي نعوم تشوميسكي: "إذا لم تخدم منظمة دولية مصالح أمريكا فهناك سبب ضئيل للسماح لها بالحياة".
إن المبادرة التي أطلقها المبعوث الخاص للأمم المتحدة في السودان فولكر بيرتس لا تخرج عن السياق العام للسياسة الأمريكية في السيطرة على الوضع السياسي في السودان، وقد دعمت أمريكا تلك المبادرة بجهود موازية عبر القائم بأعمالها في السودان، الذي التقى بالبرهان، وبنائبة رئيس حزب الأمة القومي السوداني التي قدمت مبادرة حزب الأمة، كما التقى بوفد من لجان المقاومة.
وبالرغم من تباين ردود أفعال الوسط السياسي من مبادرة فولكر من حيث القبول المطلق، والتحفظ، إلى الرفض التام، ولكن لا أحد تحدث عن حقيقتها بوصفها أسلوباً من أساليب السيطرة.
لقد علق البعض آمالهم في تحقيق التوافق بين الفرقاء السودانيين على المبادرة "الأممية في مظهرها والأمريكية في جوهرها" وكأن أمريكا رسول سلام وليست أمريكا التي فهمها على حقيقتها المفكر والمحلل السياسي الأمريكي هنتنغتون من خلال استقرائه للرأي العام العالمي، حيث ذكر في مقال له: "إن صورة أمريكا بالنسبة للعالم كانت توضح شيئاً فشيئاً على أنها القوى العظمى الشريرة والخطر الأوحد الذي يهدد مجتمعاتهم"، وقد أكد رئيس الجمعية الأمريكية للعلوم السياسية روبرت فرفيس كذلك هذا المعنى.
إن النظرة للتدخل الأمريكي بوصفه عملا إيجابياً في القضايا الدولية تعتبر بعيدة عن إدراك حقيقة السياسة الدولية وألاعيبها، وأشد بعداً عن آيات القرآن الحكيم، قال تعالى: ﴿مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾، وقال تعالى: ﴿لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ﴾.
ومما لا شك فيه، أن الكيانات السياسية في السودان مختلفة فيما بينها، ومختلفة مع المكون العسكري، إن لم نقل في كل شيء ففي كثير جداً من الأمور، ولا يتفقون إلا في كونهم مسلمين، فأنى لهم أن يبحثوا بعيداً لحل خلافاتهم وكتاب الله تعالى بين أيديهم؟! قال تعالى: ﴿وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ﴾، وقد يقول قائل لكننا نختلف أيضا في تفسير كتاب الله، هذا صحيح ولكن حتى هذا الخلاف يكمن حله في القاعدة الشرعية القائلة: (أمر الإمام يرفع الخلاف)، وإن مبايعة الإمام برضا واختيار كفيلة برفع الخلاف، بما يتبناه من أحكام مستنبطة من كتاب الله سبحانه وسنة رسوله ﷺ، لذلك فليعمل العاملون.
رأيك في الموضوع