قبل ثلاث سنوات خرج الناس في السودان إلى الشوارع احتجاجا على الوضع المعيشي السيئ الذي وصلوا إليه في ظل حكم الرئيس عمر البشير. حيث انعدمت أسباب الحياة الرئيسية من انعدام للخبز مع ارتفاع أسعاره إلى أكثر من خمسة أضعاف في الولايات إضافة إلى عدم وجود سيولة نقدية في أيدي الناس نسبة لانعدامها في البنوك حتى أصبح الشخص لا يستطيع سحب أمواله من البنوك لقضاء حاجاته، كما حدث انعدام في الوقود مع ارتفاع أسعاره.
كل تلك العوامل وغيرها أدت إلى خروج الناس للشارع والمطالبة بإسقاط نظام الإنقاذ، ولكن الناظر إلى الحال التي آلت إليها أوضاع السودان بعد ثلاث سنوات من سقوط البشير يجد أن الأمر قد ازداد سوءا، فمن الناحية الاقتصادية تضاعفت أسعار بعض السلع إلى ثلاثين ضعفا، بينما تضاعفت أسعار سلع أخرى خمسين ضعفا مثل الخبز الذي كان سعر رغيفه عند سقوط البشير جنيهاً واحدا، فوصل الآن إلى خمسين جنيها، وانهارت قيمة العملة بنسبة ألف بالمئة حيث كان سعر الدولار عند سقوط البشير ستين جنيها بينما هو الآن يعادل ستمائة جنيه، حتى طحن الفقر الناس طحنا! وأما من الناحية الأمنية فقدْ فقدَ الناس الأمن على أرواحهم وممتلكاتهم حيث ظهرت عصابات النهب والسلب في الطرقات جهارا نهارا تروع الناس دون تدخل الدولة. أما من ناحية نظام الحكم فلم يتغير شيء، فظل الأمر على تركة نظام البشير مع تغير الأشخاص المنفذين له فقط حيث إن البنود الأساسية في الوثيقة الدستورية التي تحكم البلاد هي نفسها المواد الأساسية في دستور نيفاشا لسنة 2005.
أما لماذا لم يتغير شيء ولم تحدث الرفاهية التي ينشدها الشعب، فذلك لأن تغيير الأوضاع والانتقال من حال إلى حال لا يتم بمجرد تغيير الأشخاص الذين يحكمون البلاد، وإن كان لا بد من تغييرهم لفشلهم وعدم معرفتهم، فتغيير الأحوال هي من سنن الله في خلقه وضع لها ناموساً معيناً عندما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ وقال تعالى: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فالتغيير الذي يغير الأحوال هو تغيير فكري في المقام الأول، فكان لا بد أن توجد في القاعدة الشعبية الساعية للتغيير أفكار أخرى غير التي خرجوا عليها.
ولكن لما كان الشعب كيانا منفعلا برغباته يحتاج لمن يحققها له وكانت الحكومات بطبعها كيانات منفعلة بتنفيذ رغبات الشعوب حتى تضمن رضاها لضمان استمرارها في سدة الحكم، فإذا كانت رغبات الناس هي رغبات غرائزية مبهمة لا تتجاوز بطونهم وشهواتهم ولا يعرف لها طريق واضح لتنفيذها كذلك تكون أعمال الحكام مبهمة لا لون لها غير أن رائحتها تكون نتنة، لذلك كان لا بد لإحداث التغيير أن تتغير أولا رغبات الناس لتصبح رغبات ناتجة عن فكر مبدئي صحيح قابل للتنفيذ على أرض الواقع وفق رؤية واضحة. ولما كان الشعب كيانا منفعلا وليس فاعلا فإذن ليس من طبيعته تغيير رغباته من تلقاء نفسه، فكان لا بد من وجود كيان فاعل في المجتمع قادر على تغيير رغبات المجتمع وفق رؤية مبدئية صحيحة، وهذا الكيان هو الحزب لأن الحزب هو كيان جماعي أشبه بتكوين المجتمع وهو الأقدر على التأثير في وجدان وفكر المجتمع الذي يوجد فيه والعمل على تغيير رغباته لتصبح رغبات مبدئية، عندها يحدث انقلاب جذري في الأوضاع. والتاريخ شاهد على ذلك، فالعرب في الجزيرة العربية قبل الإسلام كانوا يعيشون في حالة أقل ما توصف به أنها جاهلية. فرغم تعاقب الزعامات إلا أنها كانت تنتقل من سيئ إلى أسوأ، حتى جاء الإسلام وقاد رسول الله ﷺ وصحبه حملة التغيير الفكري وأوجدوا رأيا عاما في جزيرة العرب على المبدأ الجديد الذي يراد تأسيس الحياة على أساسه، واحتضن مجتمع المدينة هذا المبدأ الجديد فتغيرت رغباتهم التي كان أقصاها أن تنتهي الحروب بين مكونات مجتمع المدينة وكانوا يتوسلون لذلك بتنصيب ملك عليهم، وأصبحت رغباتهم هي أن يعيشوا حياة قوامها التآلف والمحبة وفق مبدأ لديه نظرة متكاملة عن الحياة والإنسان والكون، عندها تخلوا عمن كانوا سينصبونه ملكا عليهم، وقرروا تمكين من يحقق لهم رغباتهم الجديدة فكانت بيعة العقبة الثانية هي بداية إعلان الانقلاب الجذري في نظام الحكم الذي تبعه تغيير الحكام المنفعلين بالرغبات القديمة للناس، وإيجاد القادة الذين أحدثوا التغيير مكانهم فهم الأقدر على تنفيذها. عندها فقط انتقلت الجزيرة العربية من حالة الجاهلية إلى حالة الأمة العالمية كما عبر عن ذلك سيدنا عمر بن الخطاب عندما قال: "كنا رعاة للشاة والإبل فأعزنا الله بالإسلام فأصبحنا رعاة للشعوب والأمم".
فإلى الحياة الكريمة وفق منهج الله تعالى القائل: ﴿أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ﴾ إلى الحياة الكريمة في ظل دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة ندعوكم إلى العمل معنا أيها المسلمون.
الأستاذ أحمد الخطيب – ولاية السودان
رأيك في الموضوع