تحدثنا في الحلقة السابقة عن موضوع التحالف والشراكة بين روسيا والصين. فكيف بدأ هذا التقارب، وما هي أهدافه، وهل تستطيع البلدان المضي قدماً في وجه غطرسة أمريكا، وإنهاء هيمنتها على العالم؟!
إن ما يجمع الصين وروسيا في هذه الشراكة هو العدوّ المشترك لكليهما أمريكا بشكل خاص، وحلف الأطلسي بشكل عام، ومع هذا التقارب، وهذه النظرة لأمريكا فإن كلا البلدين يقيمان علاقات تجارية وسياسية ودبلوماسية مع أمريكا وأوروبا، رغم ما يتخلل هذه العلاقات من توترات وعقوبات في نواح معينة؛ خاصة بعد سنة 2014 ضد روسيا، والصين بعد شرائها أسلحة متطورة من روسيا 2018. وفي عهد الرئيس بايدن قام بإدراج أكثر من 50 شركة صينية لها صلات مزعومة بالجيش الصيني إلى القائمة السوداء، وفرض عليها عقوبات اقتصادية!! ورغم ما تقوم به أمريكا من عملية تطويق للصين؛ عن طريق التحالفات المشتركة مع أمريكا، أو بين دول عدة موالية لسياسات أمريكا الاقتصادية والسياسية؛ مثل التحالف الرباعي العسكري (كواد) سنة 2007 وتعزز هذا الحلف سنة 2020 بعد مناورات (مالابار)؛ التي جمعت أمريكا والهند وأستراليا واليابان، وتحالف أوكوس العسكري الثلاثي سنة 2021 بين أمريكا وبريطانيا وأستراليا.
وقد ازدادت حاجة روسيا إلى الصين بعد فرض عقوبات عليها سنة 2014 إثر ضمها لجزيرة القرم في أوكرانيا. وقد ضيقت أمريكا الخناق عليها في عهد بايدن، حيث كانت وسائل الإعلام الأمريكية تصف بوتين بالقاتل، وقبل القمة التي جمعت بايدن ببوتين 2021 هددت أمريكا بضم أوكرانيا لحلف الأطلسي إن لم تتعاون روسيا مع أمريكا، وبعد القمة ورفض روسيا الخضوع لمطالب أمريكا بالابتعاد عن الصين ازدادت الفجوة، وشددت أمريكا العقوبات ضد روسيا، وحاولت إقناع بعض الدول الأوروبية إلغاء استيراد الغاز منها؛ مثل ألمانيا، والاستعاضة عن ذلك بالغاز الأمريكي إلا أن ألمانيا رفضت ذلك.
إن أهم الأمور التي تنظر إليها الصين وروسيا للتفلت من الهيمنة والغطرسة الأمريكية في المنظور القريب تكمن في أمور أبرزها:
1- محاولة روسيا والصين التفلت والانعتاق من هيمنة الدولار العالمية، أي كونه غطاءً عالميا لجميع العملات، وعملة رئيسة للتبادل التجاري للسلع الحيوية كالبترول. والحقيقة أنهما قد خطتا بعض الخطوات في هذا الاتجاه، منها ما قامت به روسيا بالتعاون مع الصين مؤخرا في توقيع معظم العقود التجارية مع الصين بالعملة المحلية، عوضا عن الدولار. وقامت الصين بإنشاء اليوان الرقمي وقد بلغت كمية المعاملات بهذا اليوان داخل الصين حوالي 42 تريليون دولار سنويا في الصين فقط، إضافة إلى ذلك القيام باستبدال الذهب بكميات كبيرة من الدولار؛ حيث قام بنك الشعب الصيني بشراء ما قيمته 100 مليار دولار من الذهب.
2- التحالفات والشراكات الاستراتيجية. فقد سعت بالفعل روسيا والصين إلى بناء وتشكيل مثل هذه التحالفات؛ سواء أكانت مشتركة فيما بينها، أو مع الدول القريبة لكل منهما. ومثال ذلك ما قامت به روسيا من تحالفات مع الدول المستقلة عن الاتحاد السوفيتي السابق مثل منظمة معاهدة الأمن الجماعي سنة 2002، واتفاقية رابطة الدول المستقلة 1991. أما الصين فإنها أقامت تحالفاً مع روسيا وكوريا الشمالية. وأما ما قامت به الدولتان معا فمثاله: ما جرى بينهما سنة 2001 من تجديد معاهدة الشراكة الاستراتيجية لعشرين عاما مقبلة. ثم سنة 2022 تجددت هذه الشراكة في دورة الألعاب الأولمبية. والحقيقة أن موقف روسيا من التحالفات القريبة هو أقوى بكثير من موقف الصين؛ وذلك بسبب الإرث القديم السوفيتي. فالصين لا تعوّل كثيرا على التحالفات؛ خاصة أنها مطوقة من تحالفات عدة قامت بها أمريكا حتى في المحيط القريب منها في بحر الصين الجنوبي والمحيط الهادي وأطرافها، وفي تايوان.
3- الوقوف في وجه التوسع العسكري والاقتصادي الأمريكي: وقد برز هذا الأمر في مسألة أوكرانيا بشكل واضح؛ حيث كان أحد الأسباب التي دعت روسيا لخوض الحرب هو عدم السماح لأمريكا بالتمدد في نشر قواعدها العسكرية داخل أوكرانيا، وتهديد روسيا عن قرب. كما أن روسيا اتخذت موقفا حازما في مسألة تغيير النظام في كازاخستان، وقطع الطريق على أمريكا لجلب نظام موال لها كما فعلت في أوكرانيا سابقا، يسمح بنشر قواعد عسكرية جديدة لأمريكا في هذه المنطقة الحيوية مستقبلا.
4- التأثير في مسألة التعاون والتقارب القائمة بين أمريكا والاتحاد الأوروبي: ونقصد به الامتداد التاريخي لما جرى بعد الحرب العالمية الثانية؛ من تشكيل حلف عسكري عبر منظومة حلف الأطلسي، وتعاون اقتصادي قائم على التجارة والاتفاقات التجارية، وقد دأبت أمريكا منذ الحرب العالمية الثانية وحتى اليوم على تخويف أوروبا من المعسكر الشرقي وعلى رأسه روسيا، ومن تمدد هذا الحلف نحو أوروبا الملاصقة له. فكان ذلك مدعاة لالتصاق أوروبا بأمريكا من أجل الحماية؛ وخاصة أنها تفشل في تشكيل قوة عسكرية أوروبية ولا تستغني عن حلف الأطلسي تحت مظلة أمريكا. وتحاول الصين وروسيا تشجيع دول أوروبا للتمرد تجاه أمريكا؛ من خلال تشجيعها لإيجاد تعاون اقتصادي فيما بينها للفكاك أولا من هيمنة الدولار. وتحاول كذلك طمأنتها بعدم التفكير بالاعتداء أو التوسع باتجاهها.
5- تعزيز أوجه التعاون الاستراتيجي بين البلدين، والعمل على جلب بعض الدول المتظلمة من سطوة أمريكا إلى جانبها عبر اتفاقات اقتصادية أو مساعدات كما تقوم به أمريكا. حيث قدمت الصين في السنوات الأخيرة مساعدات عدة للدول الفقيرة؛ فقدمت منحا وقروضا بقيمة 843 مليار دولار في 165 دولة.
6- العمل على عدم تفرد أمريكا في أخذ القرارات الدولية، وجر العالم خلفها لتشعر بالوحدة وعدم المشاركة الدولية لغطرستها. وبرز هذا الأمر في مناسبات عدة من خلال التصويت في مجلس الأمن كان آخرها ضد أوكرانيا.
وهذه الأعمال إن لم تحقق إنجازات سريعة على المدى المنظور فإنها تؤثر في موضوع القطبية الواحدة في العالم والهيمنة والغطرسة الأمريكية. وفي الوقت نفسه تضعف أمريكا اقتصاديا وسياسيا، وتكشف عوراتها حتى أمام حلفائها وأصدقائها الأوروبيين، وتقدم مستقبلا لدخول هذه الدول في المنظومة الدولية بشكل فاعل، وتضطر أمريكا للخضوع في نهاية المطاف للمنظومة الدولية؛ لأن الثمن غير ذلك سيكون كبيرا ومؤثرا عليها، وسوف تبتعد الكثير من الدول في حلف الأطلسي عنها ويتسبب كذلك بعزلتها دوليا وبالتالي نزولها عن هذه المرتبة. فكيف ستجري الأمور وما هي المتغيرات التي ستحصل في العالم في سبيل تحقيق هذا الهدف المشترك المنشود؟ هذا الأمر تجيب عنه طبيعة الأحداث وسرعتها، وبقاء الدول أو خروجها من حلف أمريكا أو غير ذلك من أمور ومستجدات تؤثر في الميزان الدولي.
إلا أنه يجب أن لا يغيب عن الذهن أن أمريكا ما زالت عملاقا عسكريا واقتصاديا؛ يشكل حوالي ربع الإنتاج العالمي حسب بيانات البنك الدولي؛ 21 تريليون دولار من أصل 89 تريليون دولار حجم الإنتاج العالمي. وكذلك لا يغيب عن الذهن الحلف القائم بينها وبين الدول الأوروبية كتعاون استراتيجي للدفاع المشترك تجاه الصين وروسيا، إضافة إلى هيمنتها الدولارية.
وقوة أمريكا تتطلب وجود دولة مؤثرة بالفعل اقتصاديا وعسكريا وسياسيا لإجبار أمريكا على القبول بالأمر الوقع بإنهاء حالة الهيمنة على العالم. فنسأله تعالى أن يغري العداوة والبغضاء بين هذه الدول؛ لتنكشف عورات مبادئها الساقطة عند شعوبها، وعند شعوب العالم أجمع، وأن يعجل بزوال شرورهم، وأن يعجل بقيام العدل والأمن في ظل خلافة راشدة على منهاج النبوة.
رأيك في الموضوع