كشفت حرب روسيا على أوكرانيا عمق الصراع الدولي على المصالح والسيادة وإن كان مسرحه في هذه الحرب أوروبا وأمريكا تحديدا. ومع ذلك فإن الأمة الإسلامية ليست بمعزل عن الصراع الدولي سواء من حيث الطاقة الكامنة فيها للتأثير في العلاقات الدولية، أو من حيث الواقع الذي تعيشه الآن ما يجعلها هدفا للصراع الدولي.
وللوقوف على تداعيات الصراع الدولي على الأمة الإسلامية نستعرض أولا الأطراف الفاعلة في الصراع والقادرة على التأثير على مجريات الصراع واستخدام أدواته بشكل فعال. فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية برزت أمريكا وبريطانيا وفرنسا والاتحاد السوفيتي البائد والصين على أنها أهم أطراف الصراع الدولي، وأهم الدول الفاعلة في الموقف الدولي والعلاقات الدولية على تفاوت في إمكانياتها ومقدرتها على التأثير بشكل منفرد أو مشترك مع غيرها. وإبان الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي منذ خمسينات القرن الماضي وحتى عام 1991 عملت أمريكا على تحجيم إمكانيات حليفاتها الأوروبية وحصر دورها من خلال حلف شمال الأطلسي. وتميزت فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الآن بسيطرة أمريكا على مجريات الصراع الدولي بشكل واضح ومقدرتها على إشراك أو استبعاد الدول الأخرى حسب مصالحها. فعندما شنت أمريكا حربها على العراق سنة 1991 ساقت معها حشدا كبيرا من دول العالم ومنها أطراف الصراع الدولي. وفي حرب أوكرانيا الحالية حركت الدول الرئيسة في أوروبا لتكون طرفا في الصراع بل جعلتها أحد محاوره.
ومحاور الصراع الدولي تدور بشكل أساسي حول النفوذ السياسي، والمصالح المالية الاقتصادية، وتأمين مصادر الطاقة، والمواد الخام الضرورية للصناعات، والأيدي العاملة سواء الفنية والعلمية والجهد البشري، والصراع الحضاري. فالدول جميعها سواء أكانت من الدول الفاعلة في الموقف الدولي أو الدول التابعة لها وبغض النظر عن مدى قوتها وضعفها، فجميعها تسعى لتحقيق مصالحها والحفاظ على مكانتها العالمية بل وعلى وجودها. والفرق هو أن الدول الكبرى تستعمل قوتها الذاتية ومكانتها الدولية لتحقيق مصالحها والحفاظ على نفوذها، أما غيرها من الدول فتعتمد على قوة غيرها ومدى مقدرتها على حصول الدعم من الدول الكبرى سواء بالتبعية الكاملة لها أو بمساعدتها على تأمين مصالحها، كما هو حاصل اليوم في أوكرانيا التي تعمل على الحصول على الدعم الكامل من أمريكا وحليفاتها في أوروبا للحفاظ على كيانها.
وإنه وإن كانت المحاور المادية الملموسة للصراع الدولي خاصة النفوذ السياسي والمصالح المالية والاقتصادية هي الأبرز إلا أن الصراع الحضاري المبدئي هو الأكثر أهمية وخطورة. وقد برز هذا المحور المهم جليا حين كان الاتحاد السوفيتي يحمل المبدأ الاشتراكي ومنه الشيوعي خلال القرن الماضي وحتى سقوطه عام 1991. وبدا الصراع على النفوذ السياسي والمالي الاقتصادي ومصادر الطاقة والمواد الخام والطاقة البشرية ثانويا بجانب الصراع المبدئي. وحين تفكك الاتحاد السوفيتي وتحولت جمهورياته السابقة إلى المبدأ الغربي، غاب محور الصراع الحضاري الفكري مؤقتا عن ساحة الصراع الدولي، ما أفقد أمريكا تحديدا وأوروبا عموما أحد أهم محاور الصراع الذي يساعد على تحقيق أهداف وغايات المحاور الأخرى.
وسرعان ما عملت الدول الفاعلة في العلاقات الدولية وأطراف الصراع الدولي على إدخال المبدأ الإسلامي كمحور أساس في الصراع الدولي. وذلك لسببين رئيسين؛ الأول أن المبدأ الإسلامي يصلح من الناحية النظرية أن يكون في مواجهة المبدأ الغربي من جوانب كثيرة سواء من حيث الأسس الفكرية أو منهج الحياة أو منظومة القيم. والسبب الآخر هو أن الإسلام ينتشر بشكل مركز في مناطق شاسعة من آسيا وأفريقيا ذات الثروات المالية والاقتصادية والمقدرات الهائلة من الطاقة والمواد الخام والطاقة البشرية. وبالرغم من أن أمريكا ومن يسير معها يدركون تماما أن الإسلام ليس هو المسير أو المسيطر على مقدرات البلاد الإسلامية الآن، إلا أنه قادم لا محالة إن لم تدخله أمريكا وحليفاتها حلبة الصراع اليوم قبل غدا.
وهكذا أدخلت أمريكا البلاد الإسلامية حلبة الصراع الدولي قبل أن تصبح في الحقيقة قوة دولية مثل ما هي أوروبا والصين وروسيا. فأوروبا وخصوصا بريطانيا وفرنسا وألمانيا، والصين، وروسيا تمتلك من أدوات الصراع وطموحات الهيمنة، والمقدرات الذاتية ما يجعلها ذات تأثير اليوم قبل غدا، ولا بد أن يحسب حسابها ويراقب أداؤها وإبقاؤها ضمن المنظومة العالمية وضمن ما اصطلح عليه مؤخرا بالاستقرار الاستراتيجي العالمي. أما الأمة الإسلامية المتمثلة في بضع وخمسين دولة ليس فيها دولة متميزة بالقوة والتأثير، وليس بينها رابط سياسي كالاتحاد الأوروبي، فهي في الحقيقة لا يمكن أن تشكل قضية دولية إلا من ناحية الطاقة الفكرية الكامنة والتي يمكن أن تتحول إلى طاقة ديناميكية فعالة تعيد توحيد البلاد الإسلامية في دولة الخلافة والتي بدورها تحول بين أطراف الصراع الحالية وبين السيطرة على مقدراتها من الطاقة والمواد الخام والطاقة البشرية والتبعية السياسية.
إن إدخال الإسلام حلبة الصراع الدولي، واستهدافه بشكل مباشر منذ نهاية الحرب الباردة مع الاتحاد السوفيتي سبب عائقا كبيرا أدى إلى تأخر نهضة الأمة الإسلامية. خاصة وأن استهداف الإسلام بشكل مباشر حصل قبل أن تقوم دولة الإسلام التي تمثله وتعمل بأنظمته وتسيطر على مقدرات الأمة. وهذا خلاف ما حصل مع الشيوعية بداية القرن الماضي والتي لم تدخل حلبة الصراع الدولي إلا بعد قيام الاتحاد السوفيتي سنة 1917. ثم إن استهداف الإسلام السياسي مكن من إعادة احتلال بعض البلاد الإسلامية كالعراق وأفغانستان، ومكن من إثارة الحروب الأهلية الطاحنة في سوريا واليمن وليبيا، ومكن من إجهاض أول محاولة لبعض البلاد في كسر الطوق الاستعماري خلال ما عرف بالربيع العربي، ومكن من نشر قواعد عسكرية لأمريكا وبريطانيا في بعض البلاد الإسلامية.
من هنا فإن تداعيات الصراع الدولي على الأمة الإسلامية جد خطيرة ومؤثرة غاية التأثير ومعقدة، ليس الآن فحسب ولكن حتى بعد قيام دولة الخلافة. ما يستدعي من العاملين على نهضة الأمة على أساس الإسلام وإقامة الخلافة؛ إنعام النظر وبشكل دائم ومستمر في تداعيات الصراع وأوجهه، وتحوله من شكل إلى آخر، ومراقبة ضعفه وقوته، ليتسنى للعاملين إبصار موطئ قدمهم حين التقدم خطوة للأمام أو كيفية التقدم خطوتين حين ترجع خطوة للوراء.
رأيك في الموضوع