ثالثا- انعدام الوعي السياسي نتائجه وخيمة، دعوة ونداء لتصحيح المسار.
وإزاء هذه الأوضاع والمستجدات، وما تضمنه الحراكُ من شعارات ومطالب، وما ظهر في آخر ما صدر من خرجات رئيس الأركان وما برز من مواقف المؤسسة العسكرية الممسكة بالبلد منذ عقود، وما يلاحظ في الشارع من تناطح بين مختلف القوى والفعاليات ومن تجاذبات سياسيةٍ وبالأخص ما يشاهد من تحركات للجهات القضائية تجاه الخصوم والمناوئين والفاسدين، يجدر تسجيل الأمور التالية، بغرض تجلية الأمور وفهم حقيقة ومآلات هذا الحراك:
1- سذاجة القول بأنه لا بد من إخفاء الشعارات الأيديولوجية (والمقصود هو الإسلام) وبأن المطلب الأساسي في البداية لا بد أن يكون الحرية والديمقراطية والدولة المدنية، المقبولة عالمياً، لأن الغرب لا يسمح بالتحول نحو الإسلام جهاراً، فلا بد من التصرف بـ"ذكاء ودهاء" بعدم رفع الشعارات الإسلامية في هذه المرحلة، أي بتفويت الفرصة على الغرب وعدم إعطائه ذريعة التدخل بحجج مختلفة، منها ورقة محاربة (الإرهاب) وأن الأمة سوف تختار الإسلام لاحقاً عبر الصناديق!
2- في تناقض صارخ مع ما ورد على لسان أبناء الحراك ضمن النقطة أعلاه، ينظر الكثير من مؤيدي الحراك إلى مجريات الأمور بسذاجة محزنة تعتمد نظريةَ عدم وجود أي مؤامرةٍ من الغرب على بلاد المسلمين! وأن الغرب الأوروبي والأمريكي إنما يخدم مصالحه، وهو مع القوي "المتغلب"، ينظر ويراقب التحولات من بعيد، في الجزائر وفي غيرها. وهو ما يعني أنه على الحياد يرقب الأوضاع ولا يتدخل ويتمنى للشعب أن يحقق مطالبَه ويحفظ مكاسبه! والحقيقة هي أن هذه النظرة تنطوي على قلة وعي مهلكة وسذاجة مفرطة تقفز على عمالة وغدر وتبعية الحكام، مفادها تجاهلُ الصراع الدولي على البلد واعتبار الجزائريين متصارعين فيما بينهم على المنافع والمواقع بعيداً عن مصالح الأجنبي، وأن الـمَخرج من الأزمة يكمن في أن يصلوا هم فيما بينهم، من خلال الجلوس على طاولة الحوار وبعدم إقصاء أي طرف، إلى ما يريدونه من حلول في بلادهم دون تدخل من أحد.
3- زلة اعتبار الفساد في المال والاقتصاد فقط من خلال نظرة سطحية وساذجة للأمور تعتمد حساباتِ المادة وتطالب بإبعاد أو محاسبة رموز الفساد المالي واسترجاع الأموال المنهوبة وينتهي الإشكال فأين التعليم، والصحة، والقضاء، والإدارة، والإرادة، وعزة المسلمين، وسيادة الشرع، واسترجاع الأقصى من أعداء الأمة، وحسن رعاية شؤون الأمة بشريعة الإسلام، وتثبيت الهوية في بلاد المسلمين، واسترداد ثروات الأمة، وتحرير البشر من الرأسمالية المتوحشة ومن أنظمة الطواغيـت، وإنصاف المقهورين والمظلومين، وحمل أمانة الإسلام إلى جميع الناس في أنحاء المعمورة. وقبل كل ذلك إرضاء رب العالمين؟
4- ترسَّخ جراء تمكن ثقافة المستعمر في بلاد المسلمين وجراء الإعلام المسموم مفهومُ الدولة المدنية وأنها هي الحل الأمثل لتحقيق التوافق والتعايش، وكذا مطلب إبعاد العسكر عن الشأن السياسي. حتى صار "وهم" إخراج الجيش من السياسة مطلباً بارزاً للجماهير بكل أطيافهم يتجاهل حقيقةَ ارتباط الدولة الوطنية العميلة بالأجنبي المستعمِر الذي أنشأها ابتداءً مُسنِداً فيها الحكم إلى العسكر بواجهة سياسيةٍ زائفة وبتدبير ودعمٍ سياسي وأمني مستمر منه.
5- أوهِم الحراك أنه على قدر عال من الوعي وذلك ليسهل ركوبه أو توظيفه أو احتواؤه بحسب الجهة الفاعلة. بينما الوعي السياسي في بلد أهله مسلمون يقتضي أن تكون النظرةُ إلى الأمور من زاوية الإسلام، خصوصاً فيما ينبغي أن يكون المخرج من حالة الضياع والتردي والانسداد، وفي كيفية الانعتاق من حالة الذلة والخنوع والتبعية للغرب. واضح من هذه النقطة مدى تأثير عقيدة فصل الدين عن الحياة وعن السياسة في عقول المسلمين وما نتج منها من إبعاد شريعة الإسلام وعدم اعتبار الإسلام نظاماً شاملاً للحياة.
6- خدعة المسارعة إلى تحريك القضاء ومحاسبة السلطة للفاسدين واعتقال رموز "العصابة" بينما كان المطلبُ في البداية رفض العهدة الخامسة، ثم صار إسقاط رموز نظام بوتفليقة الممقوتين، ثم تطور إلى تغيير منظومة الحكم من جذورها، أما المحاسبة والمساءلة فستأتي بعد أن يتغير النظام. ولكن الزمرة النافذةَ سارعت إلى هذا المنحى لتغيير وجهةِ الحراك واحتوائه في نهاية المطاف عبر تحريك القضاء تجاه الخصوم والفاسدين باعتبارهم متآمرين على الدولة أو على الجيش أو على مصالح الشعب. وهي تسعى الآن في هذه الآونة إلى الدفع بكثير من الانتهازيين ومن التابعين والسياسيين المأجورين من أحزاب السلطة ومن غيرهم إلى الاندساس في الحراك وتبني مطالبه تحت شعار الوطنية استعداداً للمراحل المقبلة، ولتصنع منهم أدواتِ فعل سياسي جديدةً، لأنه لا بديل للسلطة عن أدوات على الأرض لإنجاز أي حل سياسي يمنع التغيير الحقيقي، وبالتالي يُبقي على الدولة الوطنية وفق رغبة المستعمِر وفي الوقت ذاته يلتف على مطالب الحراك ويقطع الطريق على الخصوم والمناوئين.
7- تفنن رموزُ وقادة الجناح المحسوب على فرنسا من خلال زخم الهبة الشعبية في تصوير مطلب "الدولة المدنية" أو "الدولة الديمقراطية الحقيقية" أو "الجمهورية الثانية" بأنه الحل الأمثل والهدف المنشود للحراك معتمدين ومراهنين على استمرار الحراك وإخراج أكبر عدد من الناس للشارع. بينما الحقيقة هي أن الديمقراطية ثلاثة أنواع: الأولى هي اليونانية التي في الكتب (وهي خيالية)، والثانية هي المطبقة في الغرب والتي لا يسمح بها الغرب عندنا تماماً كما لا يسمح بالإسلام بنفس منطق السذج من المسلمين، فضلاً عن كونها مناقضةً لعقيدة الأمة وبالتالي مرفوضة ويستحيل تطبيقها. أما الثالثة فهي المزعومة في بلاد المسلمين عندنا، كواجهة لنظمٍ عسكرية قمعية مستبدة تابعةٍ عميلة للغرب، تخدمه وتمنع تطبيقَ الإسلام في بلاد المسلمين.
8- إلا أن الزمرة النافذة لا زالت تسيطر إلى هذه اللحظة على كل مراكز القرار والتأثير في الدولة، ولا تزال قيادة أركان الجيش تحتفظ بكل الأوراق. ولكن على ماذا تراهن هذه السلطة المتمثلة في قيادة الأركان، وهي التي قفزت إلى الواجهة بحكم احتدام الصراع بغرض فرض تصورها للحل؟ الجواب هو أنها تراهن دون شك على تحييد الخصوم بالضغط السياسي والمعنوي وبالتهديد والضغط المادي من خلال الاعتقالات والمحاكمات، وكذلك تراهن على إفشال الحراك واحتوائه وإخماد الغضب الشعبي مع الزمن، كما تدفع سياسياً باتجاه تحقيق ارتماء الشعب في أحضان المؤسسة العسكرية بوصفها هي المنقذ للبلد من المؤامرات داخلياً وخارجياً مستخدمةً في ذلك جيشاً من العملاء السياسيين والفكريين والإعلاميين المأجورين، وعبر التخويف من مخاطر الانزلاق إلى الصدام المادي والعنف أي عبر التهديد بالدخول في الفوضى والذهاب إلى المجهول.
9- لوحظ أن أحزاب السلطة الأربعة وعلى رأسها جبهة التحرير الوطني، مباشرةً بعد خطابات قايد صالح الأخيرة انتظمت مع قيادة الأركان في الرؤية للمخرج من الأزمة على لسان قيادييها، كون هذه الجبهة دوماً أداة الفعل السياسي لأصحاب القرار منذ 1962م، وأن الحل للأزمة يكمن حصراً في تنظيم انتخابات رئاسية ضمن الشرعية الدستورية بعد حوار مع كافة الأطراف الفاعلة وبنفس المنظومة القائمة، بغض النظر عن الأشخاص، ولكن بالطرق الذكية والأساليب الخفية وبالألاعيب السياسية التي تضمن الالتفافَ على الهبة الشعبية المنادية بتغيير منظومة الحكم.
ولذا فإن الراجح أنه سوف يـؤتى في الأشهر القادمة برئيس جديد للبلاد من الزمرة نفسها بأساليب جديدة مبتكَرة من أساليب اللعب بنتائج الصناديق، إذا تمكنت السلطة من إخماد أو احتواء الحراك عبر حوار زائف يُفضي إلى تعديلات دستورية شكلية، وإذا نجحت في إنجاز التوافق وتجاوز فضيحة العزوف عن الانتخاب. وبالمجمل فإن الأمور لن تصل في المدى المنظور إلى ما تريده الأمة حقيقةً، لسبب بسيط هو أن مطلب الحراك الشعبي في الجزائر لم يرق إلى بلورة مشروع سياسي منبثق عن هوية الأمة المتمثلة في الإسلام عقيدةً سياسيةً ونظاماً محكماً يعالج كافة شؤون الحياة، يتحقق به التحررُ والقطيعة النهائيةُ مع الغرب الاستعماري الكافر ويعيد أمةَ محمد e إلى السكة في دولة خلافةٍ راشدة على منهاج النبوة وفق ما تمليه هوية الأمة الإسلامية، التي منها شعب الجزائر.
بقلم: الأستاذ صالح عبد الرحيم – الجزائر
رأيك في الموضوع