إن من سنن الله في خلقه أنها ثابتة لا تتغير، وأن ما حصل سيتكرر، وأن لا واقع إلا وله مثيله في التاريخ، وأن الاستفادة منه ليست إلا في أمرين؛ فهي إما هزيمة فيبحث واقعها وملابساتها وتفصيلاتها والأسباب التي أدت لها ليتم تجاوزها، وإما نصراً فتبحث الخطوات التي تم السير عليها والأعمال التي تم القيام بها حتى تحقق ذلك، فلقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب؛ ولعل معرض الحديث في هذا الأمر يعود لمشهد تعيشه الثورة الشامية المباركة، يشبه إلى حد بعيد حالاً مر على المسلمين في سنين مضت يمر عليها اليوم بعد مضي سنوات على قيامها ومراحل تجاوزتها ومشاهد مرت عليها من سياسية وعسكرية وإنسانية، فالمتتبع والباحث والقارئ للتاريخ يجد تشابها إلى حد كبير.
فواقع الشام اليوم يشبه إلى حد كبير أحداثا جرت في القرن السادس الهجري إبان نشوء دولة التتار، فقد كان الواقع الإسلامي في حينها في حالة يرثى لها من التشتت والضياع والاقتتال، أضف إليه المؤامرات التي كانت تحصل فكان من أسبابها ضياع الهوية وإدبار عن المحاسبة.
واقع كثر فيه الخبث رغم وجود الصالحين فقدر الله عليهم سنة كانت حقّة فيهم ومناسبة لواقعهم أن وقعت عليهم هزيمة لم تبق ولم تذر، أحرقت الحرث والنسل وأفسدت فسادا ما أنزل الله به من سلطان.
واقع يتشابه تماما مع ما يحصل اليوم من اتحاد أهل الباطل، جل غايتهم القضاء على الإسلام وأهله...
انطباق ما بعده انطباق وتشابه في التفاصيل من اتحاد أهل الباطل وصولا للاقتتال حتى التآمر يرافقه تشتت وضياع هوية وعدم وضوح الهدف، يرافقه سكوت للحاضنة الشعبية وتخليها عن دورها الفعال بالتوجيه والمحاسبة وعن استلام زمام الأمور وتوجه السفينة، والتي كان من نتائجها أن تأخرت في استشعارها للأخطار القادمة عليها مما أدى لسقوط مناطق ومساحات بذلت لأجل تحريرها الدماء وهتكت الأعراض وأفنيت الذراري، في تشابه كبير لما كان عليه حال المسلمين في القرن السادس الهجري.
وإن المتبصر بحال ثورة الشام ليجد أن دول الغرب الكافر تداعت عليها منذ إعلانها الأول في سعي منها حثيث على ركوب موجتها راجية أن لا يحصل منها نتائج لا يحمد عقباها بأن تقطع أيديهم وأرجلهم من بلاد المسلمين وتعيدهم أذلاء خاضعين كما كانوا في سالف عصرهم، فبدأوا يكيدون مكائدهم بليل ويرسمون خططهم بسرٍّ في سعي حثيث لإنهائها؛ فعملوا منذ أيامها الأولى لإيجاد رأس للثورة الشعبية في إدراك منهم كبير أن الثورات الشعبية هي أصعب أنواع الثورات انقياد رأس يوافق هواهم ويخدم مصالحهم فشكلوا رأسها السياسي من قِبل ضعاف النفوس عملاء مرتزقة، وأضافوا له رأسا عسكريا من قبل وضيعين أذلاء في خطوة أولى لاقتياد الثورة لمذبح إنهائها والقضاء عليها.
ترافق مع ذلك خطوات لتوسعة الشرخ بين الحاضنة والفصائل لعزلها عن واقعها وحاضنتها وبث الشقاق بينهما ليتحقق المبتغى وتفقد الثورة مصدر قوتها وحاضنتها.
وبعد أن نجحت دول الكفر فيما رسمته بدأت في قطف ثمار عملها وبدأ مسير الثورة في طريق يشابه تماما ما سرد من وقائع عن حال أمثالهم في زمن مضى بأن كثر فيها الخبث وانهارت محافظات واندحرت تشكيلات في ظل تغافل وإدبار من الحاضنة عما يحصل من وقائع وابتعادها عن تحمل مسؤولياتها وإدراك كونها مركز الثقل وبيضة القبان ومركز التنبه وأنها هي فقط من يستطيع التغيير والتوجيه.
كان من نتائج هذا الكيد والتخطيط أن كسرت الثورة كمقام مادي في كثير من المواقع وهُجّر كثير من أهلها من الرافضين للمجرم أسد وحكمه، وتحقق مكرهم في الثورة كما يحسبون، ولكن يمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين؛ فقد كان من ترتيب الله أن يكون هذا الأمر لخير؛ فقد جمع جميع من رفض أسد وحكمه من المخلصين أصحاب المواقف الثابتة والذين لم تتلوث أيديهم بسموم الداعمين ولم يرتبطوا في بقعة واحدة هي إدلب، فإدلب اليوم تعد أكبر خزان للرافضين للمجرم أسد ومكان الحاضنة القديم التي أذاق حكم أسد الأب في الثمانينات الويلات، إدلب اليوم هي المعقل الأخير كواقع جغرافي لثورة أهل الشام.
واليوم تقرع طبول الحرب على أطرافها ويزداد صوتها قوة يوما بعد يوم مؤذنا بحرب طاحنة بين عصبة أسد السفاح وبين المخلصين، ولكن للحرب معادلة وجب أن تتوفر حتى يتحقق النصر كما تحقق في القرون الماضية ووجب أن يعمل بمعادلة النصر المادية حتى تتوفر أسبابه ويتنزل من الله سبحانه على عباده.
وها هي اليوم طبول الحرب تقرع في ظل تآمر دولي معلوم على ثورة أهل الشام، رافقه تملص الضامن التركي من وعوده الكاذبة التي خبرها ووعاها أهل الشام بحماية المنطقة وعدم السماح بأي عمل فيها وأنها ضمن خطوطه الحمراء ليضيفها لقائمة دَجَلِه عسى أن يصحو ما تبقى من المخدوعين، وروسيا الكافرة تصرح بأن الحرب أصبحت واقعا في ظل وجود جماعات (إرهابية) فيها، فجميع المعطيات تشير لحقيقة أن الحرب اقتربت وأن صوت طبولها يرتفع يوما بعد يوم... فهل سيكون مآل المنطقة كما سابقاتها أن تسلم فصائلها وتظهر ضفادعها أم سيستفاد مما وقع من أخطاء...؟
لعل الناظر نظرة أولى للمنطقة يخلص لنتيجة أن واقعها لا يختلف عن مثيلاتها من حيث ارتباط الفصائل وتبعيتها وفساد المشرعنين وكذب الضامنين وعدم وجود قيادة واعية للحاضنة تدرك خطورة المشهد وتتحرك بما يلائمه، يضاف لها فقدان الهوية المتمثلة بالمشروع السياسي الواعي المنقذ والمخلص، واقع لا يختلف عن سابقه للوهلة الأولى، إلا أن إمعان النظر يُري فروقات ستحدث أمرا وتقلب المعادلة؛ أن لا منطقة بعد إدلب ليهجر لها الرافضون للمجرم أسد وأن لا خلاص ولا خيار سوى خيار المواجهة.
وإن المنطقة اليوم أصبحت تضم أكبر تجمع للمخلصين والثوريين الرافضين للصلح مع أسد وزمرته، كما أنها تضم أكبر شريحة من أصحاب الخبرات العسكرية، يضاف لها قربها من مناطق إحداث الفارق وقلب الطاولة يسندها حاضنة ذات أصول طويلة بالمعارضة وذات باع طويل في كره أسد وحكمه ونظامه.
فروقات تتوفر فيها مقومات النصر وهي كحبات الخرز لا تحتاج إلا لبذل جهد يسير حتى تتجمع في خيط واحد لتحدث الفارق، وكما قلنا فإن التاريخ دروس وعبر، فما الجهد اليوم إلا بقراءة أسباب هزيمة المناطق السابقة وترتيب الأوراق لأجل تجاوزها وتحويلها لنصر وفتح مبين...
وبالعودة لكل ما ذكر تجد أن كل مقومات معادلة النصر متوفرة من حاضنة وقوة عسكرية مخلصة، ولا ينقصها سوى المشروع السياسي الواضح، وهذا ما عزم على تقديمه حزب التحرير من أول يوم في هذه الثورة المباركة ليكون خارطة طريق تقود الجهود والتضحيات لخاتمة ترضي الله سبحانه ورسوله r بأن يقام حكمه على خلقه.
فها نحن اليوم وكما سالف طرحنا نقول لأهلنا في شام الخير أن لا خلاص لهذه الثورة المباركة إلا بما يقدمه لكم إخوانكم في حزب التحرير بعد أن خبرتم صدقهم وأنهم بحق رائد لا يكذب أهله، وبعد أن عاينتم بعيني رأسكم ما قُدّم لكم من ترهات ليس من ورائها سوى هدف واحد هو إبعادكم عن سبيل خلاصكم وتلويث بصيرتكم.
فالمعركة اليوم هي معركة إخلاص وطاعة قبل كل شيء، ولا انتصار فيها إلا بالالتزام بأوامر الله سبحانه والسير وفق هديه وسبيله وما دون ذلك ليس إلا خسارة وخسران مبين.
بقلم: الأستاذ عبدو الدلي أبو المنذر
رأيك في الموضوع