لسنوات عدة أدركنا على المستوى الفكري أن عودة الخلافة ستؤدي إلى إزالة الحدود القومية التي فُرضت على الأمة الإسلامية، وقد أدركنا أن العيش كأمة واحدة تحت نظام واحد هو فرض، وأن هذا الأمر قد تحقق خلال الخلافة الأولى.
لكننا نتساءل: كيف سيكون ذلك ممكناً؟
بعد أكثر من قرن من العيش تحت الحكم الرأسمالي، وبعد أن تم إقناعنا بأن الحدود القومية وُضعت لصالحنا، نتساءل كيف يمكن أن يحدث هذا التغيير؟ لقد علّمنا الغرب وعملاؤه، أن الطريقة الوحيدة لنكون "أحراراً" هي بإنشاء دول قومية تكون فيها السلطة "من الشعب، وللشعب، وبيد الشعب"، وهكذا أصبح هذا هدفنا الأسمى، بشكل جعل الناس في البلاد المستعمرة يبدؤون بالسعي لتحقيقه في منتصف القرن العشرين، ولقد قيل لنا إن أي شخص يعارض هذه الفكرة يُعتبر متطرفاً إرهابياً، وخطراً على العالم وقيمه!
وهكذا صدّقنا وقاتلنا، واندلعت حركات الاستقلال في جميع أنحاء الإمبراطورية البريطانية وغيرها من الإمبراطوريات الغربية، لقد أُزهقت أرواح كثيرة فقط لكي نتحرر من الاستعمار، ومن التدخل الأجنبي، ومن الاستغلال والبؤس، وفي جميع أنحاء البلاد الإسلامية عمد الحكام إلى ربط أفكار القومية بالإسلام، وأقنعونا بأنهما شيء واحد لا ينفصل.
صدقنا ذلك، رغم أننا رأينا القرارات المشكوك فيها التي اتخذها حكامنا والنظام الدولي، قرارات لم تكن تهدف إلى تحريرنا، بل إلى استغلالنا وإبقائنا تحت سيطرة أمريكا وعملائها، قرارات مثل غزو العراق وأفغانستان، والقروض الاستغلالية الربوية التي قدمها صندوق النقد الدولي وغيره من المؤسسات الدولية، تماما مثل الحروب في اليمن وميانمار والسودان، وهذا على سبيل المثال لا الحصر.
ولكن غزة غيّرت كل ذلك، فبفضل الله ثم تضحيات أهل فلسطين، تمكنا من كشف الأكاذيب، لقد أصبح بإمكاننا أن نرى كيف أدت أفكار القومية وتقسيم البلاد الإسلامية إلى إنشاء كيان يهود وقتل وتهجير أهل فلسطين بشكل مروع، أصبحنا ندرك كيف أن هذه الأفكار فرقت المسلمين، وسمحت للكفار أن يوقعونا في صراعات ضد بعضنا بعضا تطبيقا لسياسة "فرّق تسد".
لقد قيل لنا مراراً وتكراراً إن وحدة الأمة الإسلامية مجرد فكرة لا وجود لها، وذلك لأن المسلمين في جميع أنحاء العالم لا يمكنهم أن يشتركوا في مجموعة واحدة من الأفكار والمبادئ، قيل لنا إن هناك انقسامات كثيرة بيننا (شيعة وسنة)، ناهيك عن الانقسامات "الوطنية"، لقد أقنعونا بأنه لا يمكن لنا أن نتوحد تحت نظام واحد.
ولكن الأحداث التي تلت السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023م ذكّرتنا بأن هذا ليس صحيحاً، حيث توحدت الأمة الإسلامية بأكملها في دعوتها للاستجابة لفلسطين؛ لم نكترث للانقسامات، ولم نهتم بالخلافات البسيطة بيننا التي قام الغرب بتضخيمها، ما كان يهمنا هو إيجاد حل للمآسي التي يعاني منها أهل غزة، وسرعان ما بدأنا ندرك أن حل الدولتين لن ينهي معاناة أهل فلسطين وبدأنا ننادي بالجهاد.
والآن، خطا المجاهدون في سوريا خطوة أبعد، فقد أسقطوا بشار الأسد، ذلك الطاغية الذي ساعد الغرب في قمعه للشعب السوري، ومع إسقاطه، بدأ بعضهم ينادي بنصرة غزة، وإقامة الدولة الإسلامية.
والآن أليس من مسؤوليتنا بصفتنا مسلمين أن نستجيب لندائهم؟ وأن نطالب الجيوش في بلادنا بالاستجابة لهم؟ وأن نرفض التلاعب بنا عبر أكاذيب القومية والوطنية؟ روى أبو داود عن رسول الله ﷺ أنه قال: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ دَعَا إِلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ قَاتَلَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ، وَلَيْسَ مِنَّا مَنْ مَاتَ عَلَى عَصَبِيَّةٍ»، وفي حديث لرسول الله ﷺ عن القومية والوطنية قال: «دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ» رواه البخاري ومسلم.
إن الغرب ووكلاءه سيضاعفون جهودهم في التلاعب بنا وتشتيتنا وتقسيمنا عندما يرون بوادر عودة الإسلام، لأنهم يدركون التهديد الذي تشكله عودة الإسلام على نفوذهم وقوتهم، يمكننا أن نرى كيف استجابت أمريكا فوراً لما يحدث في سوريا، إن تصريحاتهم واجتماعاتهم مع حكام الشرق الأوسط توضح بجلاء كيف أنهم يعملون لضمان عدم تركهم وحدهم في قمع أي دعم محتمل لثوار سوريا ودعوتهم للجهاد وإعادة إقامة الخلافة.
مع أخذ هذا في الاعتبار، قد يسأل بعضنا: ماذا لو لم تنجح محاولة إقامة الخلافة وإرسال جيوش المسلمين إلى غزة؟ والجواب على ذلك أنه لا يمكننا أن نكون متأكدين من أننا سننجح هذه المرة، ولكن أليس من واجبنا أن نحاول، وأن نسعى لتحقيق هذا الهدف النبيل، ثم نتذكر أن النتائج بيد الله؟ ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾.
أن نتبع النبي ﷺ، وأن نؤدي الفرض المتمثل في العمل للعيش تحت الحكم الإسلامي ورفض الخيارات الأخرى؟ كما رأينا عندما رفض النبي ﷺ عرض قريش للاستمرار في حكمهم إلى جانب حكم الإسلام، عندما قال: «لَوْ وَضَعُوا الشَّمْسَ فِي يَمِينِي، وَالْقَمَرَ فِي يَسَارِي عَلَى أَنْ أَتْرُكَ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى يُظْهِرَهُ اللهُ، أَوْ أَهْلِكَ فِيهِ، مَا تَرَكْتُهُ».
حتى نرفع رؤوسنا عالية يوم القيامة، عندما يطلب أهل غزة العدالة، ونقول: نعم، لم ننسَكم، لقد قاتلنا من أجلكم، ولم نصدق الأكاذيب التي غُذّينا بها بعد تضحياتكم.
بقلم: الأستاذة فاطمة مصعب
عضو المكتب لإعلامي المركزي لحزب التحرير
رأيك في الموضوع