إن لإمام المسلمين أهمية مركزية في حياتهم، فهو الذي يحكمهم بما أنزل الله، ويوحّد سلطانهم وبلادهم في دولة واحدة، ويرفع الخلاف بينهم، قال رسول الله ﷺ: «إِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ» رواه مسلم. فكيف حالنا بعدما فقدنا درعنا، في 28 رجب 1342هـ الموافق 3 آذار/مارس 1924م؟ وكيف كان ردّ فعل المسلمين في شبه القارة الهندية عندما أشرفت دولتهم على الضياع وقتها؟
عندما أشهر المستعمرون الغربيون سيوفهم للقضاء على الخلافة العثمانية، حشد مسلمو شبه القارة الهندية أنفسهم للدفاع عنها، رغم أنهم كانوا يخضعون لاحتلال بريطاني وحشي، وبعد أن هاجم الإيطاليون الخلافة في طرابلس في أيلول/سبتمبر 1911م، واحتلوا طرابلس وبنغازي، عقد المسلمون اجتماعات عامة في جميع أنحاء شبه القارة الهندية للدعوة إلى دعم "الخليفة في الحرب الأكثر ظلماً ووحشية"، واندلعت مظاهرات عديدة في تشرين الأول/أكتوبر 1912م عندما هاجمت دول البلقان دولة الخلافة، وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1912م، ألقى الشاعر الصادق العلامة إقبال رحمه الله قصيدته (جواب شكوى) في مسجد بهادشاهي في لاهور من أجل جمع الأموال لصالح الخلافة، وبذل شوكت علي ومحمد علي جوهر من ولاية أوتار براديش جهوداً لحشد المسلمين لدعم الخلافة.
عندما استخدم المستعمرون الغربيون فكرة القومية العربية لضرب الخلافة من الداخل، والتي حملها الشريف حسين وحارب بها الخلافة العثمانية، اندلعت ضده مظاهرات في جميع أنحاء شبه القارة الهندية في حزيران/يونيو 2016م، وفي 26/6/1916م، صدر قرار في لكناو يدين "السلوك المشين" لحسين. وبعد مرور عام على احتلال الجنرال الصليبي اللنبي للمسجد الأقصى المبارك وإنهاء سلطة الخلافة هناك، صدر إعلان من شبه القارة الهندية في كانون الأول/ديسمبر 1918م جاء فيه: "يجب إيلاء الاعتبار الكامل لمقتضيات الشريعة الإسلامية فيما يتعلق بالسيطرة الكاملة والمستقلة لسلطان تركيا خليفة النبي ﷺ على الأراضي المقدسة وعلى جزيرة العرب كما جاء في كتاب المسلمين".
استمر قلق مسلمو شبه القارة الهندية حينما احتل المستعمرون الغربيون عاصمة الخلافة إسطنبول، وفي شباط/فبراير 1919م، صدرت فتوى بوجوب نصب خليفة، وفي 21/9/1919م، أعلن المسلمون في مؤتمر عُقد في لكناو أن "التفكير في تقطيع أوصال تركيا وإنشاء عدد من الدويلات الصغيرة من الأجزاء المكونة للخلافة مع انتداب قوى غير إسلامية هو أمر غير مقبول وسيزرع بذور الاحتقان في البلاد الإسلامية"، وتم إعلان يوم 17/10/1919م كـ"يوم الخلافة"؛ للدعاء من أجلها، وتم تشكيل لجان الخلافة بين العامة، وانعقدت مؤتمرات، وجُمعت الأموال في سبيل إنقاذها، وصدرت "روبية الخلافة" المكتوب عليها آيات القرآن مترجمة، وصدرت مجلة "الخلافة".
ثم عندما قام عميل بريطانيا مصطفى كمال بإلغاء نظام الخلافة في 3/3/1924م، اهتاج مسلمو شبه القارة الهندية، واجتمعوا في 9/3/1924م لتنظيم إجراءات لإنقاذ الخلافة وأصدروا برقية تحذّر من أن إلغاء الخلافة "سيفتح الباب أمام الأطماع الخبيثة"، وأصدروا تعميماً يقضي بضرورة ذكر اسم الخليفة المطرود عبد المجيد في صلاة الجمعة.
بالتوازي مع الجهود السياسية الطويلة والمضنية والمختلفة للدفاع عن الخلافة، بذل عدد كبير من جنود المسلمين ومقاتلين مسلحين قصارى جهدهم للدفاع عن الخلافة بعرقهم ودمائهم ونيرانهم وسيوفهم، على الرغم من الإجراءات الوحشية التي كانت تُمارس ضد القوات المسلمة، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى (1914-1918م)، أطلق رجال من الفوج البلوشي العاشر النارَ على ضباط بريطانيين في بومباي كانوا على وشك السفر إلى الخارج للمشاركة في الحرب ضد الخلافة، وأصبحت الوحدات العسكرية في روالبندي ولاهور نشطة ضد البريطانيين، وتمرد جنود مسلمون في فرنسا ضد البريطانيين، وفي كانون الثاني/يناير 1915م، رفض البلوش في رانغون القتال ضد الخلافة العثمانية في بلاد ما بين النهرين، وأطلق الجنود المسلمون من فرقة المشاة الخفيفة الخامسة المتمركزة في سنغافورة النارَ على ثمانية ضباط بريطانيين وبدأوا في قتال البريطانيين. بالإضافة إلى ذلك، في شباط/فبراير 1915م، بادر مسلمون من البنجاب وانضم إليهم مسلمون من أفغانستان بالتوجه إلى تركيا لمحاربة البريطانيين وإنقاذ الخلافة. وفي أوائل عام 1916م، رفضت وحدات أفريدي من كتيبة الرماح الخامسة عشرة القيام بمسيرة ضد الخلافة العثمانية في البصرة وانتفضت ضد البريطانيين.
تم تشكيل (حركة المناديل الحريرية) التي سميّت بهذا الاسم لأن الرسائل التي كان يتبادلها شيخ الهند وزملاؤه، والتي تحتوي على الخطوط العريضة لخطة تجنيد متطوعين للجيش، كانت مكتوبة على قطعة قماش حريرية. ولتشكيل قوة عسكرية، تم إرسال مولانا عبيد الله السندي إلى أفغانستان، ومولانا الأنصاري إلى قبائل المنطقة الحدودية، وانطلق مولانا حسين أحمد مدني إلى الحجاز عام 1915م للحصول على الدعم من الخلافة العثمانية.
لم تتوقف جهود المسلمين العسكرية عندما احتل المستعمرون الغربيون تركيا، وصدرت الفتوى التي تم تداولها في شباط/فبراير 1919م، بأنه يجب على المسلمين أن يهبوا لمساعدة الدولة الإسلامية التي تتعرض لهجوم الكفار. وفي أيار/مايو 1919م، شنّ المسلمون الأفغان هجوماً على البريطانيين، حيث تم توزيع منشورات في ولاية أوتار براديش تحث على الجهاد ضد الكفار، وتوزيع أخرى في البنجاب والبنغال حول بشرى عودة هيمنة الإسلام، وفي الفترة من شباط/فبراير إلى أيار/مايو 1921م، وُزّعت فتوى تحرّم الخدمة في الجيش البريطاني.
الحقيقة هي أن المسلمين في شبه القارة الهندية كانوا مخلصين في الدفاع عن الخلافة، وكانوا بحق على دراية بالأذى الذي سينجم عن فقدان درعنا.
لقد تم إضعاف دولتنا من الداخل حتى انهارت، من خلال التحريض على التمرد عليها على أسس القومية العربية والتركية، وضمن سياسة "فرّق تسد" قامت بريطانيا بعدها بنهب بلاد المسلمين وتقسيمها إلى دويلات صغيرة، ولم يكفها ذلك حتى أشعلت نار الفتن داخلها، وتكالبت علينا الأمم، كما حذرنا رسول الله ﷺ: «يُوشِكُ الْأُمَمُ أَنْ تَدَاعَى عَلَيْكُمْ كَمَا تَدَاعَى الْأَكَلَةُ إِلَى قَصْعَتِهَا» فَقَالَ قَائِلٌ: وَمِنْ قِلَّةٍ نَحْنُ يَوْمَئِذٍ؟ قَالَ: «بَلْ أَنْتُمْ يَوْمَئِذٍ كَثِيرٌ وَلَكِنَّكُمْ غُثَاءٌ كَغُثَاءِ السَّيْلِ وَلَيَنْزَعَنَّ اللهُ مِنْ صُدُورِ عَدُوِّكُمْ الْمَهَابَةَ مِنْكُمْ وَلَيَقْذِفَنَّ اللهُ فِي قُلُوبِكُمْ الْوَهْنَ» فَقَالَ قَائِلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الْوَهْنُ؟ قَالَ: «حُبُّ الدُّنْيَا وَكَرَاهِيَةُ الْمَوْتِ» رواه أبو داود.
وبعد هدم دولة الخلافة، قام المستعمرون الغربيون بنصب حكام على رقاب المسلمين يحكمونهم بغير ما أنزل الله، بأنظمة دكتاتورية، من خلالها كان للمستعمر مطلق الحرية في عقد تحالفات عسكرية آثمة مع البلاد الإسلامية، وتحريضها على قتال بعضها بعضا، مثل القتال بين إيران والعراق، وبين السعودية واليمن وغيرها، وكان دور حكامنا هو إما موافقة أعداء المسلمين الحقيقيين (أمريكا الصليبية، وكيان يهود، والهند) أو مساعدتهم في تعزيز احتلالهم فلسطين وكشمير وغيرهما، بل ومقاتلة المسلمين الذين يصدّون العدو ووصفهم (بالإرهاب)، فبدون إمام يحكمنا بالإسلام وقعنا فيما حذرنا منه رسول الله ﷺ: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّاراً يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ» رواه مسلم.
ومن خلال أنظمة الضلال، فرض المستعمرون القروضَ الربوية لإغراق بلادنا في ديون لا مفر منها وفرضِ شروط اقتصادية لشلّ الصناعة والزراعة، فأصابنا الفقر والذل بدون الخلافة التي توحدنا، رغم أراضينا الشاسعة وشبابنا ومواردنا الأكبر من معظم تلك التي تحوزها القوى الكبرى في العالم، وذلك بسبب حكام لا يحكمون بما أنزل الله، قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللهِ كُفْراً وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ﴾.
لقد هزّ فقدان درع الأمة (الخلافة) المسلمين في شبه القارة الهندية، وإن مرور أكثر من مائة عام هجرية على غيابها يجب أن يكون دافعاً للمسلمين في شبه القارة الهندية إلى الوفاء بالتزامهم أمام الله سبحانه وتعالى ورسوله ﷺ وإعادتها، ولا شكّ أنهم، في باكستان وأفغانستان وبنغلادش والهند وسريلانكا مخلصون للإسلام، لذلك عليهم جميعا أن يسعوا جاهدين لإقامة الخلافة، وإلى استعادة هيمنة الإسلام على شبه القارة الهندية بأكملها، لتتحقق بشرى رسول الله ﷺ: «عِصَابَتَانِ مِنْ أُمَّتِي أَحْرَزَهُمَا اللهُ مِنْ النَّارِ عِصَابَةٌ تَغْزُو الْهِنْدَ وَعِصَابَةٌ تَكُونُ مَعَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ» رواه أحمد والنسائي، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: «وَعَدَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ غَزْوَةَ الْهِنْدِ فَإِنْ أَدْرَكْتُهَا أُنْفِقْ فِيهَا نَفْسِي وَمَالِي فَإِنْ أُقْتَلْ كُنْتُ مِنْ أَفْضَلِ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ أَرْجِعْ فَأَنَا أَبُو هُرَيْرَةَ الْمُحَرَّرُ» رواه أحمد والنسائي.
بقلم: الأستاذ مصعب عمير – ولاية باكستان
رأيك في الموضوع