إن الناظر لما يجري في ثورة الشام نظرة سطحية يظن أنها تشهد أيامها الأخيرة، حيث يتردد على ألسنة بعض السياسيين والإعلاميين أن ثورة الشام قد انتهت وأن الحل السياسي الأمريكي الهادف للمحافظة على نظام الإجرام لا بد أن يتحقق. ولأصحاب هذه النظرة السطحية، سنورد حقائق لا تُغطى بغربال تؤكد أن الثورة لا تزال حية في قلوب أهلها.
نبدأ من كيف خرجت الثورة وأسباب خروجها، وكيف أنها كانت نتاج تعبئة استمرت لسنوات، كان لنظام الإجرام الدور الأكبر في هذه التعبئة.
تولى نظام أسد الحكم في سبعينات القرن الماضي، وذلك بعد صراع محموم مع رجالات بريطانيا الذين سيطروا على الوسط السياسي لعقود ثلاث. ولقد كان أول باب من أبواب الاحتقان الشعبي هو تولي طائفة قليلة لسواد عظيم من شعب مسلم، لذلك نلاحظ أن التعبئة للثورة بدأت منذ تلك اللحظة، وازدادت عملية التعبئة متمثلة بالعقلية التي أدار من خلالها نظام أسد البلاد؛ فقد بدأت عملية الضغط على الناس بإنشاء مجموعة أفرع تناوبت في ممارسة كل أنواع القهر على الناس.
بدأت أول إرهاصات هذه التعبئة تظهر في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات، وذلك من خلال الثورة التي شملت عدداً من المحافظات، منها دمشق وحلب وحماة وأجزاء من إدلب، انتهت بمجزرة مروعة ارتكبها النظام في مدينة حماة، التي قتل فيها الكثير من الناس الأبرياء، وقاد الآلاف من أبناء الشام إلى السجون، لينتهي بهم المطاف بالتصفية في سجن تدمر سيئ الصيت. وبذلك يمكن القول إن حافظاً الملعون قد دق مسمار انتهاء حكمه في الشام وبخاصة أنه قد بدأ فترة حكمه بالمجازر. وعليه فقد ارتفعت التعبئة عند الحاضنة للخلاص ولكن متى تكون ساعة الصفر لم يكن أحد يعلم، ولكن كان ذلك متوقع الحدوث وبدرجة عالية.
وما حصل بعد ذلك هو مزيد من أعمال النظام المستبد لإدراكه أنه لن يستطيع حكم الناس إلا بمزيد من الخوف، ليزداد حجم الضغط على الناس والتعبئة، التي إن حصل الانفجار على إثرها فلن يستطيع أحد إيقافه أو حتى الوقوف بوجهه.
وكان الحدث المفصلي الذي زاد من حقد الحاضنة هو ما حصل في عام 2000م، من طريقة تولية أسد الابن للحكم، والتي أرسلت إشارات لكمية الاستهتار بالناس والاستخفاف بهم.
لم تكن أعمال الابن مختلفة عن والده، فقد أمعن في التضييق على الناس والملاحقات والاعتقالات التعسفية، وكل ذلك كان يزيد احتقان الناس، وبالتالي قرب حدوث الانفجار الكبير؛ وكانت ثورة تونس شرارة الانفجار، ولم يكن حدث تونس بالهين، فقد جر خلفه مصر وليبيا واليمن لتكون بعد ذلك الشام التي انطلقت ثورتها من درعا.
بداية الأمر كانت هناك إمكانية احتواء التحرك وإنهائه في مهده لولا العقلية القمعية للنظام والعنجهية التي خبرها الناس عنه على مر العقود الماضية، فكانت هذه العقلية سبباً في تأجيج الثورة وانتشارها في باقي المناطق، لتدخل الشام بعد ذلك في مرحلة جديدة من الصراع مع حكومات المجتمع الدولي، بين الاستمرار بالثورة وبين الأعمال من قبلهم لتقويضها وإعادة الناس لحظيرة النظام من جديد.
إن العين المتتبعة لأعمال المجتمع الدولي بكافة أطيافه، من دول استعمارية وأخرى تدور في فلكها، وآخرها الدول العميلة والأدوات، ليقول إنها قد قضت على تطلعات الناس بالخلاص، فقد دخلت جميع مفاصل الثورة من عسكرية وسياسية إلى إغاثية وخدمية، وبالتالي أصبحت تتحكم بشكل كبير بأي حركة تقوم بها الثورة بكافة أطيافها. فقد كانت هذه الأعمال مركزة ولم تكن مرحلية أو ارتجالية.
وترافقت مع هذه الأعمال ذات المحرك الخارجي أعمال أخرى من الداخل، فارتفع الضغط الأمني على الناس وكثُرت الاعتقالات والملاحقات وبدأت تتسرب عن قصد التصفيات التي كانت تحدث في المعتقلات. ترافق مع ذلك التدمير الممنهج للمدن والقرى والبلدات، أعمال ولّدت حقيقةً ضغطاً لا يمكن لأحد أن يتخيله، حتى دفعت البعض للقول إن سعينا للخلاص قد انتهى وبددته قوة الدول وأعمالها؛ ولكن هل كانت هذه الأعمال كفيلة بأن تُنهي حلم الخلاص الذي بدأ عام 2011م؟!
إن المتتبع بعين السياسي للثورة وكيف كانت تخرج بعد كل فخ كان يُنصب لها ليُدرك كيف أن هذه الأعمال لم تكن إلا كما كانت سابقاتها من أعمال قبل الثورة، فقد كانت تشكل مزيداً من الاحتقان في نفوس الناس، وبالتالي تجهيزاً لانفجار أكبر من سابقه، سيكون على مستوى المجتمع الدولي؛ فبعد أن كانت احتمالية القبول بالنظام ومؤسساته أمراً غير مقبول، أصبح التعايش معه غير محتمل بل ومستحيلاً، والقبول بالمجتمع الدولي أيضاً كذلك، ورُفعت شعارات كثيرة تعبر عن ذلك، منها أسماء جُمع، فقد سُميت إحداها بأن المجتمع الدولي شريك أسد في مجازره وأخرى تحت عنوان: "القاتل بحماية المجتمع الدولي".
نعم سعوا لدفع الناس للاستسلام ورفع الراية البيضاء ولكن خابت مساعيهم، بسبب الوعي الذي تزايد عند أهل الشام على تآمر البعيد والقريب عليهم، فكانت الأعمال التي يقوم بها المتآمرون تولد مزيداً من التعبئة للقاعدة الشعبية من أجل الاستمرار لإحداث التغيير، هذا ما يمكننا من القول إنه ما عبرت عنه أحداث ذكرى الثورة الحادية عشرة. فكمية النزول الشعبي فاقت التوقعات، بغض النظر عما شابها هنا أو هناك من أعمال مقصودة ليقال "هذه ثورتكم"، حشودات غلب عليها وعي لما تريده، فما إن تم الترويج للمظاهرات بأنها لإسقاط بشار حتى ثارت ثائرة الناس على وسائل التواصل بأن الشعار ومن أصدره ساقط، وأنه لا يمثل الثوار في ذكرى الثورة سوى شعار "الشعب يريد إسقاط النظام" بدستوره وبكافة أركانه ورموزه، فقُطع الطريق على الخطوات اللاحقة التي ستبني قراراتها على ما تم رسمه، وتبين ذلك بشكل جلي عند اجتماع اللجنة الدستورية التي أعلن القائمون عليها أنها لم تتوصل لأي نتيجة كانت، كما سابق اجتماعاتها.
وفي النهاية نقول: إن المعطيات للوصول إلى الهدف ما تزال موجودة، وبقوة، وإن أسباب الاستمرار والانتصار كثيرة، وبالتالي فإن النهاية التي يخطط لها أعداؤنا غير ممكنة، في الفترة الحالية على الأقل، وبخاصة أن الصراع بات محموماً، والواضح اليوم في المشهد هو الاستمرار حتى تحقيق الأهداف التي نادت بها ثورة الشام وعلى رأسها إسقاط نظام الإجرام وإقامة حكم الإسلام.
فالثورة تمتلك مقومات المبادرة؛ فالاحتقان موجود ويحدث بشكل يومي، وكذلك البرنامج السياسي الذي سيفجر هذا الاحتقان بالشكل الصحيح حاضر وبقوة، ومعه حزب سياسي عريق وواعٍ يدرك اللعبة وتفاصيلها ويمتلك مشروع الخلاص الذي يجمع الإمكانيات ويضمن سيرها الشرعي الصحيح لتحقيق الأهداف المشروعة، فهو ذو تجربة وخبرة سياسية وكفاءة.
نعم، الثورة لم تنتهِ، وهي تُسقط كل المشاريع والخطط التآمرية، وهي تشتد وتقوى كلما زاد التآمر عليها، فجميع الضربات كانت مؤذية ولكنها لم تكن قاتلة، ولكن علينا أن نأخذ بعد تصحيح المسار أخذ زمام المبادرة، والاستفادة من إمكانياتنا حتى نتمكن من السير قدما لتحقيق أهدافنا.
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية سوريا
رأيك في الموضوع