معلومٌ لدى الجميع العلاقات القريبة بين أمريكا وتركيا، والتوافق التام بينهما في السياسة الخارجية منذ استلام حزب العدالة والتنمية الحكم. ورغم الموقف الأمريكي في قضايا تسليم تركيا طائرات إف 35 وتسليم تنظيم غولن وغيرها من المسائل العديدة وارتفاع الدولار أمام الليرة التركية؛ فإن السياسيين الأتراك لا يفتؤون يرددون تصريحاتهم بعلاقات الصداقة مع أمريكا. فقد قال جاويش أوغلو في مؤتمر السفراء العاشر في 16 آب/أغسطس 2018: "إن الولايات المتحدة الأمريكية لا تعلم الصديق الحقيقي ولا تراه... ونحن لا نريد أن نعيش أية مشكلة مع أي دولة في العالم. ولا نكون سعداء أبداً بأن نعيش مشكلة مع الولايات المتحدة الأمريكية. يمكننا أن نحل مشاكلنا القائمة مع الولايات المتحدة الأمريكية ولكن ليس في إطار فهمها الحالي". [وكالات الأنباء].
مقابل ذلك أدلى ترامب التصريحات التالية المتعلقة بتركيا: "كان ينبغي عليهم إعادة باستور منذ زمن طويل، وأرى أن تركيا تصرفت بشكل سيئ جداً، ولم ينته هذا الأمر بعد. ولن نجلس مكتوفي الأيدي ونقبل هذا، ولا يمكنهم أن يحتجزوا رعايانا، وسنرى بالتالي ما الذي سيحدث". [17 آب/أغسطس 2018، بي بي سي التركي].
في سياق هذه التصريحات التركية الأمريكية المتقابلة، وبالنظر إلى تاريخ العلاقات التركية الأمريكية في عهد حزب العدالة والتنمية على وجه الخصوص؛ يمكننا أن نوجز التوتر القائم بين أمريكا وتركيا وارتفاع الدولار أمام الليرة التركية في هذه النقاط الثلاث:
الأمر الأول: أن الرئيس ترامب الذي يتعرض لانتقادات تتناول سياساته وحياته الشخصية والمحاولات الروسية للتدخل في الانتخابات الأمريكية، يسعى منذ أن أصبح رئيساً إلى كسب المزيد من أصوات التبشيريين في انتخابات الكونغرس النصفية في 8 تشرين الثاني على وجه الخصوص، ويسعى بالتالي إلى إثارة أجواء التوتر مع تركيا، ويسعى الجمهوريون إلى تحقيق هيمنتهم على الجناحين كليهما، ومن أجل هذه السياسة الداخلية لأمريكا تثار قضية الراهب برونسون وتفرض العقوبات وتنشأ التوترات. وهكذا تتحول قضية الراهب الذي أمضى 20 شهراً في السجون التركية دون أن يثير ذلك أي اهتمام من قبل أمريكا فجأة ليتصدر جدول الأعمال على الصعيدين التركي والأمريكي. وباختصار يسعى الجمهوريون للسيطرة على مجلسي الشيوخ والكونغرس في الانتخابات النصف مرحلية التي ستجري في 8 تشرين الثاني من خلال تناول القضية من البعد الديني، ويستخدمون برونسون المحتجز في تركيا كرافعة في هذه الانتخابات، ولذلك يقومون بتصريحات ذات صلة بالمبشرين.
وهذا باختصار أحد الأسباب التي تختفي وراء التوترات الجارية بين أمريكا وتركيا. وقد سبق أن كان الصحفي دنيز يوجل معتقلاً في تركيا، فتم تجاهل جميع القواعد القانونية وأطلق سراحه ورُحّل على الفور إلى ألمانيا، وكل ذلك خلال ساعات في سبيل علاقات تركيا بألمانيا. فإذا أخذنا هذا بعين الاعتبار؛ نجد أنه من الصعب للغاية اتخاذ تركيا موقفاً ضد أمريكا في قضية الراهب الأمريكي، بل الذي يحدث هنا هو صراع متفق عليه بين السياسيين الأمريكيين والأتراك، يكسب فيه كل من الطرفين مكانة عند شعبه.
الأمر الثاني: إذا ما أخذنا بعين الاعتبار صعود الدولار الأمريكي أمام الليرة التركية على وجه الخصوص، يظهر أمر آخر. فالمعلوم أن أمريكا بدأت حرباً تجاريةً على العالم كله. ولا يمكن لأمريكا أن تستثني تركيا من هذه الحرب التجارية. بل بالعكس تماماً، لن تتردد أمريكا في تقييم كل فرصة تسنح لها في سبيل تحقيق المصالح الأمريكية ولو كان ذلك على حساب تدمير الاقتصاد التركي كله. خصوصاً أن أمريكا ترى أنها أمسكت بجميع خيوط النظام في تركيا من خلال "نظام حكومة رئاسة الجمهورية" التي وضعت في التطبيق العملي عقب انتخابات 24 حزيران 2018، بناء عليه لا ترى أي حرج في استخدام أي وسيلة في هجماتها.
والأدوات الأهم التي يستعملها المستعمرون ضد البلدان الأخرى هي؛ البورصات والبنوك الربوية والنظام النقدي. وتركيا تملك وضعاً مناسبا لاستخدامها من حيث أداتا البنوك والنقود. والسبب في ذلك هو ما يلي: وفقاً للأرقام الرسمية التي أعلنتها مستشارية الخزينة في 31 آذار/مارس 2018 فإن مجموع دين تركيا الخارجي بلغ 466.7 مليار دولار، وتبلغ الديون الخارجية للقطاع الخاص 325.1 مليار دولار. وتركيا مفتوحة دائما للتدخلات الخارجية بسبب الأعمال المصرفية الربوية والبورصات والليرة التركية المرتبطة بمؤشر الدولار. وأصحاب رؤوس الأموال العالمية (أمريكا وإنجلترا ضمناً) الذين لا يعرفون حداً في جشعهم يهاجمون أول ما يهاجمون البلدان التي يمكنهم أن يحققوا فيها الربح الأكبر لإشباع جشعهم. لذلك واجه أردوغان خلال زيارته الأوساط المالية في إنجلترا قبيل الانتخابات؛ المطالبة برفع معدلات الفوائد. وعارض أردوغان الطلب الذي تقدم به الإنجليز، لكنه وقف وجها لوجه مع ارتفاع الدولار عقب عودته إلى تركيا.
ولهذا السبب ذهب وفد من البنك المركزي برئاسة محمد شيمشك إلى إنجلترا، وأسفر عن هذه الزيارة زيادة البنك المركزي للمعدل الأساسي لسعر الفائدة بمقدار 175 نقطة عن المتوقع. وقد علم أردوغان بالصعوبات الاقتصادية الخطيرة التي ستواجهها تركيا فقام بتبكير الانتخابات.
وباختصار، فإن الدوائر المالية بسبب الاقتصاد العالمي تعمل على رفع أسعار الصرف من جهة وأسعار الفائدة من جهة أخرى من خلال استخدام نقاط الضعف القائمة في الاقتصاد التركي. وقد ارتفعت أسعار الفائدة حتى هذه اللحظة لأعلى من 28%. ويبدو أن أسعار الصرف والفائدة ستستمر بالارتفاع نظراً للتصريحات التي أدلى بها ترامب قبل العيد.
الأمر الثالث: التطورات في سوريا. وضمن هذه الحرب المتبادلة فُتحت الفرصة لتركيا لتنفيذ المصالح الأمريكية في السياسة السورية بطريقة أكثر هدوءاً وراحةً. حيث ذهب وزير الدفاع خلوصي أكار ورئيس الاستخبارات الوطنية حاقان فيدان بتاريخ 17/08/2018 إلى روسيا لمناقشة الوضع في سوريا.
بقلم: الأستاذ محمد حنفي يغمور
رأيك في الموضوع