الجزء الثاني
وأمريكا حين تعاملت مع هذا الملف – الميزان التجاري- تعاملت مع دول منفردة كالمكسيك وكندا، وبعض دول أوروبا والتي تشكل عصب الاتحاد الأوروبي كفرنسا وألمانيا، وأهملت كثيرا من الدول، فمثلا الميزان التجاري يميل لمصلحة كيان يهود على حساب أمريكا وهي معفية من كثير من الضرائب والجمارك، وهو ما لا يذكره الإعلام بالمناسبة، وأمريكا حين تتعامل مع هذا الملف تتخذ الإجراءات مع الدول التي من شأنها تشكيل خطر داهم على أمريكا، وتهمل تلك التي لا تشكل خطرا على المدى البعيد. وأمريكا الآن تعاني من أزمة الدين الخانقة حيث إن دين أمريكا قد قارب الدخل القومي الأمريكي، وهذه الأزمة المالية الضخمة جدا جعلت أمريكا تشعر بعبئها الكبير، فهي تقول وبكل صراحة إنها تحمي العالم وتبذل في ذلك التكاليف والمخاطر، وفي المقابل لا تأخذ من العالم ما يساوي هذه الحماية، وقد صرح ترامب بهذا وهو ذاهب إلى قمة الناتو، حيث انتقد ألمانيا بأنه يحميها من روسيا وهي تعقد الاتفاقيات التجارية مع روسيا وتمدها بأسباب الحياة، والتي من المفترض أنها العدو بالنسبة للدول الأوروبية، وأوضح أن لأمريكا الكثير من القواعد في ألمانيا لحمايتها من روسيا، وأن أمريكا هي من تنفق على هذه القواعد، فضلا عن كون ألمانيا لا تدفع حتى نصيبها المفروض والمتفق عليه سابقا وهو 2% في حلف الناتو، فترامب منزعج جدا من المنطق الذي تتعامل به ألمانيا مع أمريكا التي تحميها من العدو الروسي، وكان هجوم ترامب على ألمانيا هجوما كبيرا، وانتقد وبشدة خط الغاز الروسي إلى ألمانيا.
ونتيجة الضعف والأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي عصفت بأمريكا، أعادت أمريكا النظر في الاتفاقيات التي جمعتها مع الحلفاء الأوروبيين، من مثل سكوتها عن ميل الميزان التجاري لصالح الدول الأوروبية، وعدم التزام الدول الأوروبية المشاركة في الناتو بالنسبة المتفق عليها في الإنفاق على الحلف، وهذه السياسة ليست جديدة وتتمثل بشخص الرئيس ترامب، فهي سياسة دولة وليست سياسة شخص، فقد بدأت هذه السياسة مع الرئيس الأمريكي السابق أوباما، حيث قال إنه لا يوجد راكب بالمجان، لكن يختلف أسلوب ترامب عن أوباما بالبلطجة والعنجهية، وقد أجابت ألمانيا أمريكا حين قالت إنها شاركت في حلف الأطلسي في أفغانستان، وأنفقت في حلف الأطلسي، في حين إنها لم تنتفع بأية مصالح حينما غزت مع الاتحاد أفغانستان، وكانت المصالح محصورة فقط لأمريكا، وأشارت ألمانيا أن دفع أمريكا للنصيب الأكبر من التكاليف كان ثمنا للهيمنة الأمريكية، نعم لقد رفضت ألمانيا قولا، ولكن لم تستطع أن ترفض فعلا، على الرغم من أن أوروبا تدرك ضعف أمريكا، ولكنها تدرك أيضا أن ضعف أمريكا لا يقارن بضعفها، فلا تزال الهوة كبيرة جدا بين أوروبا وأمريكا في جميع المجالات.
وقد استخدمت أمريكا الخطر العسكري الروسي لتهديد أوروبا، لأن أمريكا تعلم أن أوروبا تستشعر هذا الخطر بالفعل، ولديها تاريخ دموي حافل بالصراعات مع روسيا، في حين إن أمريكا لا يوجد لديها مثل هذ التاريخ من الصراعات، ففي أعظم درجات الصراع بين أمريكا والاتحاد السوفياتي سابقا وروسيا وهي وريثة الاتحاد السوفياتي لم يصل الصراع إلى الصدام المسلح بين الدولتين، واستمر حربا باردة إلى حين انهيار الاتحاد السوفياتي. فترامب حينما ذهب لمقابلة بوتين، هدد أوروبا بأنه قد يعيد النظر في موضوع استيلاء روسيا على جزيرة القرم في سبيل ابتزاز أوروبا؛ للإذعان للمطالب الأمريكية، ولكن موضوع تغيير الحدود الجغرافية بالقوة العسكرية في أوروبا، أو في دول لأوروبا فيها مصالح، هذا ما تخشاه الدول الأوروبية بحق من روسيا، ولروسيا سوابق عديدة في ذلك، وفي الحقيقة لا يقف حاجزا منيعا أمام روسيا من أن تعيد سيناريو القرم، إلا خشية أمريكا وهيمنتها وسطوتها، وإلا فروسيا قادرة عسكريا على فعل ذلك، وهي ترى بأنها تلقت العديد من الطعنات من أوروبا الغربية، كما حصل في يوغسلافيا والبوسنة والهرسك، وتوسع أوروبا الغربية في مناطق أوروبا الشرقية، ما أثر على مصالح روسيا، وأوروبا لا تستطيع الوقوف بوجه روسيا في حال تكرر سيناريو جزيرة القرم. وترامب يستغل هذا العداء التاريخي. في حين لم تستطع أمريكا بعد استغلال روسيا ضد الصين، فقد التقت كلا الدولتين وحصلت بينهما اتفاقيات، على عكس أوروبا التي توجد عندها أرضية خصبة لاستغلال العداء التاريخي بينها وبين روسيا.
وأمريكا على الرغم من أنها تخشى من أوروبا كتكتل، ولكنها تدرك عوامل الفرقة والضعف بين الدول الأوروبية، فمعظم الدول الأوروبية لا تملك المقومات الاقتصادية التي تمتلكها الدول الكبرى في الاتحاد وهي فرنسا وألمانيا وبريطانيا، ودول أوروبية عديدة مثل إيطاليا والبرتغال وإسبانيا واليونان مدينة بمبالغ هائلة جدا تتجاوز أحيانا الناتج القومي، ودول أوروبا الكبرى حينما تساعد هذه الدول على التخلص من ديونها، فليس منَة، فهي تستحوذ على هذه الدول، وتستملكها بجشعية رأس المال العفن كما حصل مع اليونان حينما غرقت في الديون، ومن الجدير بالذكر أن بريطانيا مثلا حينما أدركت وضع الاتحاد الأوروبي واستحالة اتحاده حقيقة، وجدية أمريكا في تفكيكه، خرجت منه، كما وتدرك أمريكا خوف فرنسا من استحواذ ألمانيا على أوروبا، ولذلك تجد مواقف فرنسا مثلا متذبذبة. فأوروبا ليست مجتمعة على قرار واحد، وإن حاولت محاولات عديدة للتوحد من مثل القوة الأوروبية العسكرية المشتركة، وغيرها من المشاريع التي لم تجد حيزا في الواقع بعد، سعيا من أوروبا أن تبقي على مصالح لها، وألا تخضع لسياسات أمريكا، ولكن لا زالت الدول الأوروبية عاجزة عن ذلك، وأمريكا تعرف ذلك جيدا وتستغله.
ومحصلة القول إن أوروبا وافقت مكرهة على المطالب الأمريكية، ليس وكأنها لديها الخيار، وهذا ما يعنيه قول الرئيس الفرنسي جاك شيراك حين قال "إن السياسة اليوم لم تعد فن الممكن بل فن صنع الممكن"، أمريكا بإمكانها جعل أوروبا تذعن لمطالبها، وأوروبا لا يمكنها الرفض، لأنها وببساطة لا تمتلك المقومات لذلك في الوقت الحالي على الأقل.
رأيك في الموضوع