في يوم الأحد 5 آب/أغسطس 2018م انضمت فصائل المعارضة في جنوب السودان إلى اتفاق قسمة السلطة ومستويات الحكم في اللحظات الأخيرة، ووقع عن حكومة جنوب السودان الفريق سلفاكير ميارديت وعن الحركة الشعبية في المعارضة رياك مشار، بينما وقع عن مجموعة المعتقلين السياسيين دينق ألور وغبريال جونسون عن تحالف (سوا) وجوزيف أوكيلو عن الأحزاب والقوى السياسية وفرانسيس دينق عن الشخصيات القومية ومحمد مرجان عن رجال الدين بجانب ممثل لمنظمات المجتمع المدني بجنوب السودان.
فلماذا تم هذا الاتفاق بعد مماطلات، وبعد تأجيل لموعد التوقيع رغم الإعلان عنه عدة مرات؟
وما حقيقة الحديث عن تهديدات وضغوطات تعرض لها فرقاء جنوب السودان للقبول بالتوقيع؟
هل تم اتفاق الجنوب بإرادة المتفاوضين أم أن جهات ذات أيد خفية شاركت في دفع هذا الاتفاق فكان لها التأثير في تمام توقيعه؟ ومن هو صاحب المصلحة الحقيقية فيه؟ وهل هذا الاتفاق سيوقف الحرب الأهلية التي أوقعت منذ اندلاعها في 2013م عشرات الآلاف من القتلى وشردت الملايين؟
وهل هذا الاتفاق سيصمد مع الأخذ في الحسبان الواقع على الأرض؟ أم أنه اتفاق نوعي فلن يكون كالاتفاقات السابقة؟
وما الحل الجذري لقضية جنوب السودان وما شابهها من القضايا في بلاد المسلمين؟
يظهر أن هذا الاتفاق قد تم بعد ضغوط شديدة مورست على المتفاوضين، وقد تكرر تأجيل الاتفاق بعد إعلان موعد التوقيع مرات عدة، ففي حديثه للصحفيين في جوبا، خلال زيارة قصيرة قام بها وزير الخارجية السوداني الدرديري إلى جنوب السودان حاملاً رسالة شفهية من الرئيس البشير، قال سلفاكير: (كما تعلمون فإن المجتمع الدولي يحاول دوماً فرض نفسه وشروطه، والضغط علينا، ولكننا سنوقع على الاتفاقية ليس نتيجة للضغوطات بل سنوقعها لكوننا مقتنعين بأننا نقوم بالأمر الصائب). العربية نت 5/8/2018م.
ونشر موقع سودان تريبيون في يوم الثلاثاء 7/8/2018م، أن جبهة الإنقاذ الوطنية، وهي جزء من تحالف المعارضة في جنوب السودان، قد اتهمت الوساطة السودانية بممارسة التخويف لحمل الرافضين على التوقيع، في بيان نشرته يوم الاثنين، وأضاف البيان بتوقيع زعيم الحركة توماس سيريلو سواكا "إن قيادة جبهة الإنقاذ الوطنية تدرك أن بعض أعضائها قد تعرضوا للخطر ولضغوط للتوقيع على الاتفاق بشأن القضايا العالقة حول الحكم).
وفي يوم الجمعة 3/8/2018م نشر سودان تريبيون نقلا عن رويترز أن سلفاكير قال: "اتفاق 2015 فُرض علينا ولم تتح لنا الفرصة للتعبير عن رغبتنا. ولهذا عندما ذهبت للتوقيع أبديت تحفظاتي.. لم يأخذوني على محمل الجد إلى أن انهار الاتفاق أمامهم". والجدير بالذكر أن المفاوضات كانت تجري بأكاديمية الأمن العليا في ضاحية سوبا شرق الخرطوم. وهذا يؤكد أن هناك أيدي خفية تدخلت في الضغط على المتفاوضين بل حتى في تعديل بنود الاتفاق.
فقد قال وزير الإعلام في حكومة الجنوب مايكل ماكواي لويث يوم الاثنين 9/7/2018م إن الوساطة السودانية عدلت ما تم الاتفاق عليه بالفعل وخرجت بمقترحات جديدة لم تتم مناقشتها من قبل، وكرر الخميس 19/7/2018م انتقاداته الحادة لوزير الخارجية السوداني الدرديري، قائلاً إنه (لم يكن صادقا مع نفسه) وتابع (أول أمس جاء باقتراح آخر وأعلن أن الأطراف اتفقت. ومن الواضح الآن أن الأطراف لم توافق.. لذا فهو شخص يضلل المجتمع الدولي والمنطقة وحتى رؤساء الدول وحكومات الإيقاد). مع العلم، أنه لا الدرديري، ولا البشير، يملكان من زمام الأمور شيئاً، فالاتفاقيات كانت بدعم ورعاية الدول الاستعمارية (أمريكا وبريطانيا) التي رحبت بهذه الاتفاقيات على لسان القائم بأعمال سفارة أمريكا بالخرطوم ستيفن كوتسيس، وكذا السفير البريطاني بالخرطوم عرفان صديق. (صحيفة الأخبار الخميس 28/6/2018م). إن هذه الاتفاقيات التي تحركها الدول الاستعمارية بأيد خفية مستخدمة عملاءها، ليست اتفاقيات خير كما يصورها البعض، بل هي نذير شر وشؤم، فقد قال وزير الخارجية السابق، إبراهيم غندور، في 13/4/2017م: (إن فصل الجنوب كان في الأساس مؤامرة قَبِلْنَا بها، وما يجري الآن هو نتائج هذه المؤامرة)، وذلك رداً على كلام وزير الخارجية الروسي. وقد اعترف الرئيس البشير في حواره مع موقع سبوتنيك الروسي بتاريخ 25/11/2017م قائلاً (الضغط الأمريكي والتآمر الأمريكي على السودان كبير... وتحت الضغوط الأمريكية انفصل جنوب السودان... ونحن لدينا معلومات الآن أن السعي الأمريكي هو تقسيم السودان إلى خمس دول...)
وقد بات واضحاً أن اتفاق الجنوب تم في أجواء ضغوطٍ وتهديداتٍ شديدةٍ، مورست على الأطراف الموقعة، مما يؤكد أن الاتفاق لم يكن وليد إرادة سياسية لأهل الجنوب، ولا إبداعاً من النظام الحاكم في الخرطوم، وإنما إملاءات وتعليمات للدول الرأسمالية الاستعمارية.
وقد غفل هذا الاتفاق، أو كان أمراً مقصوداً، عدم النقاش حول قضية إيجاد دستور ونظام يحل المشاكل المتجذرة في الجنوب، فيحدد الحقوق والواجبات، لكل أفراد المجتمع، ويحدد واجب الدولة ومسؤوليتها، وكذا حقوق الأفراد، ومن ثم يعالج قضية العنصرية والقبلية التي تتحكم في جنوب السودان بشكل قبيح، فلم يتناول الاتفاق حقوق الناس على الأرض، وحل مشاكلهم، وإنما تناول المحاصصة السياسية، وقسمة السلطة بين المتصارعين الذين في الحقيقة لا يمثلون إلا الدول الأجنبية التي يعملون لحماية مصالحها في البلاد؛ أمريكا وبريطانيا. فقد قال وزير الخارجية الدرديري في مؤتمر صحفي يوم السبت 4/8/2018م نقلا عن سونا، (إن الطرفين الرئيسيين، من يملكون قوات على الأرض سيوقعون على الاتفاق).
فلم يكن الاتفاق حلاً وعلاجاً لمشاكل الناس على الأرض. لذلك سيظل الوضع سيئاً في الجنوب، وسيظل هذا الاتفاق هشاً كغيره من الاتفاقات السابقة، وسيواصل النظام عجزه عن تحقيق الأمن والاستقرار للناس.
فالجنوب بهذا الشكل لن يستقر ولا حتى دولة السودان في الشمال؛ إلا إذا جُعل الحل وفق قاعدة مبدئية، وليس الإملاءات الغربية الاستعمارية، وإنه قد ثبت فعلاً أنه لا يوجد فكر سياسي يحقق الأمن والاستقرار، ويصنع حياة كريمة للناس مثل عقيدة الإسلام، مع مقدرتها على إغلاق الباب أمام مطامع المستعمرين، وبسط الأمن وتحقيق العدل، وقد تمثلت هذه العقيدة والأحكام المنبثقة عنها في دولة الخلافة التي جمعت بين الناس بمختلف أشكالهم وألسنتهم، ووحدت بينهم ليكونوا إخوانا تحت ظل الإسلام، ثم رعتهم أحسن رعاية.
إذن هذا هو المخرج الجذري لمشكلة الجنوب، وما شابهها من مشاكل في بلاد المسلمين، خلافة راشدة على منهاج النبوة، اللهم عجل لنا بها يا رب العالمين.
بقلم: الأستاذ محمد جامع (أبو أيمن)
مساعد الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع