في ظل التحولات الجيوسياسية العالمية، يواجه النظام القائم على قواعد أحادية القطبية والذي كانت أمريكا تدافع عنه في السابق تدقيقا متزايدا وانحدارا. وتسلط التطورات الأخيرة الضوء على الحاجة الملحة إلى إطار عمل جديد يتجاوز إخفاقات الهيمنة الغربية والبدائل الاستبدادية. ففي تشرين الأول/أكتوبر، كرر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وبدعم من القمم الناجحة لمنظمة شنغهاي للتعاون ومجموعة البريكس، دعواته إلى نظام عالمي متعدد الأقطاب. وفي مؤتمر عقد في سوتشي، أكد بوتين أن أمريكا "لن تكون في مركز النظام العالمي الجديد". وتتوافق هذه المشاعر مع خيبة الأمل المتزايدة بين الدول تجاه الأنظمة التي تقودها أمريكا والتي يرى كثيرون أنها استغلالية وانتقائية في تطبيقها للعدالة. وتقدّم مجموعة البريكس وغيرها من التحالفات البديلة إطارا لتخفيف هيمنة أمريكا. ولكن مع نمو هذه المنتديات، يثير انحيازها إلى قوى استبدادية مثل روسيا والصين مخاوف بشأن ما إذا كانت قادرة حقا على الدفاع عن العدالة والكرامة الإنسانية، وهي المبادئ التي ينبغي أن يحافظ عليها أي نظام عالمي.
لقد كشفت أزمة غزة عن هشاشة النظام الذي تقوده أمريكا، فقد أثار دعمها غير المحدود لكيان يهود، على الرغم من تزايد الخسائر المدنية في غزة، انتقادات واسعة النطاق. ويتهم كثيرون أمريكا بالنفاق، وإعطاء الأولوية للتحالفات الاستراتيجية على مبادئ حقوق الإنسان والقانون الدولي التي تدّعي أنها تدعمها. ويمتد هذا التآكل في الشرعية إلى ما هو أبعد من غزة، ففي مختلف أنحاء الجنوب العالمي، أدى النهج الانتقائي الذي تنتهجه أمريكا في التعامل مع العدالة إلى نفور الدول التي تسعى إلى نظام عالمي أكثر عدالة. ويتطلب الفراغ الذي خلّفه تراجع النفوذ الأمريكي قيادة تعطي الأولوية للعدالة وحماية جميع الأرواح البشرية، بغض النظر عن الجغرافيا أو المحاذاة السياسية.
وتسلط التحذيرات الأخيرة التي وجهها السيناتور ليندسي غراهام إلى حلفاء أمريكا وغيرها من البلاد، الضوء على الطبيعة القسرية للدبلوماسية الأمريكية. إن العواقب الوخيمة التي قد تتعرض لها الدول التي تدعم تحقيق المحكمة الجنائية الدولية في قضية رئيس وزراء يهود بنيامين نتنياهو تؤكد على الازدواجية في قلب السياسة الخارجية الأمريكية. ويضفي مثل هذا السلوك مصداقية على الانتقادات التي تزعم أن الدور العالمي الذي تلعبه أمريكا أصبح جبرا وليس إلهاماً. وتتوافق هذه التصرفات مع ادعاءات زعماء مثل بوتين، الذين يزعمون أن أمريكا لم تعد تستحق الجلوس على رأس الحكم العالمي. ومع ذلك، فإن البديل الذي تقدمه دول مثل روسيا والصين، والتي تتسم بالقمع وتجاهل حقوق الإنسان، غير كاف بالقدر نفسه.
وفي خضم هذه الإخفاقات، يقدم الإسلام إطاراً تحويلياً للحكم العالمي المتجذر في العدالة والمساواة والرحمة. وعلى النقيض من الأنظمة التي يحركها السعي وراء السلطة أو الثروة، تؤكد المبادئ الإسلامية على المحاسبة والاحترام المتبادل وحماية الكرامة الإنسانية. ويؤكد ذلك قول الحق سبحانه وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً﴾ فهذه الآية تسلط الضوء على الأخلاق العالمية التي تتجاوز الحدود والتحيزات.
إن الحكم الإسلامي، كما أثبتته الخلافة الراشدة والأموية والعباسية والعثمانية تاريخياً، أعطى الأولوية لرفاهية جميع الرعايا، بغض النظر عن الدين أو العرق. وتأكيده على تطبيق أحكام الشورى والتوزيع العادل للموارد، وحظر الاستغلال يتماشى مع تطلعات العديد من الدول إلى نظام عالمي أكثر شمولاً ورحمة.
إن تراجع النظام العالمي الذي تقوده أمريكا وعدم كفاية مراكز القوة البديلة يمثلان فرصة لإعادة تصور الحكم العالمي. لذا يجب على المسلمين أن يأخذوا على عاتقهم إقامة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة والبدء في فترة من الأمن والازدهار، يقول الله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾.
بقلم: الأستاذ عبد المجيد بهاتي – ولاية باكستان
رأيك في الموضوع