لا يزال النفط يلعب دورا استراتيجيا في السياسات الدولية وذلك لكونه المصدر الأهم والأكبر للطاقة في العالم والمحرك للصناعة العالمية. وبدون أدنى شك فإن من يتحكم بالنفط من حيث الإنتاج والتسويق والتسعير يكون بإمكانه التأثير في السياسة الدولية. وقد استعملت أمريكا نفوذها النفطي في السعودية عام 1973 من خلال أرامكو واتفقت مع الملك فيصل على رفع سعر النفط من 1 دولار إلى 20 دولار تقريبا للبرميل وذلك من أجل الضغط على أوروبا كي تخضع لعملية فصل الذهب عن الدولار والذي كانت أمريكا قد فرضته عام 1972 من أجل التقليص من أثر الكم الهائل من الدولارات التي تجمعت في أوروبا بسبب مشروع مارشال الأمريكي. وحين عصفت الأزمة المالية العقارية بالاقتصاد العالمي عام 2008 وكان سعر النفط دون 50 دولاراً للبرميل أخذت الأسعار بالارتفاع إلى أن زادت على 100 دولار منذ عام 2010 وبقيت كذلك حتى عام 2014 حيث عادت للهبوط. وكان ارتفاع الأسعار ما بين 2010-2014 موجها إلى إنعاش الاقتصاد الأمريكي خصوصا والعالمي بشكل عام، من خلال استهلاك الكم الهائل من الدولارات التي ضخها البنك الفدرالي الأمريكي.
وقد تراوحت أسعار النفط خلال عامي 2017 و2018 ما بين 60-75 دولاراً بمتوسط 65 دولاراً للبرميل الواحد. وكانت أسعار النفط قد شهدت نزولا طفيفا من 72 إلى حوالي 64 دولاراً خلال شهر أيار ثم ما لبثت أن عادت للارتفاع إلى 74 دولاراً خلال شهر حزيران. ومن ثم هبوطا آخر منذ بداية شهر تموز، إلا أنه ليس بالهبوط الكبير حيث هبطت الأسعار من 74 دولاراً إلى 70 دولاراً للبرميل كما هو مبين في الشكل أدناه.
وهكذا فإن أسعار النفط سواء صعودها أو هبوطها تخضع لسياسة الدول المهيمنة على سوق النفط أكثر مما تخضع للعرض والطلب. فالنفط ليس سلعة كأي سلعة بل هو مادة استراتيجية تستعمل في تحقيق سياسات وتنفيذ خطط. وغالبا ما تكون التغيرات في أسعار النفط مرتبطة بقضايا سياسية أكثر منها مجرد العرض والطلب. وعلى الأرجح فإن الانخفاض المؤقت للأسعار خلال الأسابيع الفائتة كان عائدا للعرض والطلب أكثر منه لقضايا سياسية ملحة، فقد أظهرت بيانات رسمية في بكين تراجع واردات البلاد من النفط الخام للشهر الثاني على التوالي فى حزيران/يونيو، مع تقلص هوامش أسعار النفط وتقلب أسعار بعض شركات التكرير المستقلة، وقد يكون ذلك من أثر الحرب التجارية التي بدأت بين الصين وأمريكا.
ومع ذلك فإن لبعض القضايا السياسية أثراً مباشراً في هبوط أسعار النفط مؤخرا وإن لم يكن كبيرا. فصادرات إيران من النفط بدأت بالتراجع بسبب العقوبات التي عادت بعضها على إيران مما قلل من كمية النفط في السوق العالمي بمقدار مليوني برميل، وهو المقدار نفسه من النفط الذي طلب من أوبك توفيره للسوق العالمي. إضافة إلى أن أمريكا حرصت على تخفيض سعر النفط ولو قليلا قبيل قمة ترامب وبوتين لتلوح أمريكا بعصا النفط وجزرته في آن واحد، خاصة وأن روسيا تعتمد بشكل كبير على صادراتها من النفط حيث يبلغ إنتاج روسيا حوالي 11 مليون برميل يوميا، ما يعني أن هبوط سعر البترول بمقدار 5 دولارات يحرم روسيا من 20 مليار دولار سنويا. ومع ذلك فإن ما طرأ على أسعار النفط من هبوط طفيف لا يشكل عملا سياسيا مهما بقدر ما هو تلويح بإمكانية استعمال النفط في قضايا مهمة. حيث إن استمرار انخفاض أسعار النفط يوفر لأمريكا أدوات ضغط كبيرة فيما يتعلق بالدول والكيانات التي من شأنها أن تنافس أمريكا أو تؤثر على سياستها العالمية. وليس من المتوقع حاليا عودة أسعار النفط للانخفاض إلى ما كانت عليه قبل أربع سنوات، أي إلى مستويات أقل من 40 دولاراً.
ولعل أكثر ما يثير الأسى في النفس هو سرعة تجاوب أمراء النفط في بلاد المسلمين حين يتم الطلب منهم زيادة إنتاج النفط أو خفضه بما يتلاءم مع رغبة أمريكا في زيادة الأسعار أو خفضها! فالنفط لا شك سلعة مهمة في الوقت الراهن، وقد حبا الله بلاد المسلمين بكميات واحتياطات ضخمة من النفط، كان الأولى أن يستخدم في زيادة قوة المسلمين وبناء بلادهم بناء متينا بدلا من أن يكون أداة لهوٍ وفجور للأمراء والمشايخ والملوك، بل وسبباً من أسباب قوة أعداء الأمة وأساطين استعمارها واستعبادها! والله تعالى يقول: ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا﴾.
بقلم: الدكتور محمد جيلاني
رأيك في الموضوع