تضاربت الأنباء طوال المدة الماضية حول حقيقة الوضع الصحي للمشير "حفتر"؛ فريق يؤكد إصابته بجلطة دماغية أدت إلى دخوله مرحلة الغيبوبة "الكوما"، وأكد بعضهم أنه في حالة موت سريري. غير أن جوقة إعلام "الكرامة!" التي تضم بقايا من النظام السابق وبعض سقط المتاع من العلمانية هؤلاء يرددون بأن حفتر في حالة جيدة، وكانوا في أول الأمر يرفضون الاعتراف بحقيقة مرضه.
وفي منتصف الشهر الماضي عندما تصاعدت وتيرة الصراع بين عقيلة صالح والمشير حفتر بعد أن قام عقيلة صالح بزيارة الجبهة العسكرية المحاصرة لمدينة درنة المجاهدة، محذراً أبناء قبيلته المنتسبين إلى قوات حفتر من مهاجمة درنة، وبأنه سيكون مصيرهم كمصير "البراعصة"، فأرسل مكتب حفتر الأمني أفراداً من التابعين له قاموا بالسطو على حراسات عقيلة صالح وأخذوا آلية بسلاحها، فكانت رسالة واضحة إلى عقيلة صالح.
والآن وقد أصبح حفتر في عداد الموتى فإننا نشهد تسابقاً بين "الأتباع" الذين هم لمصر والذين هم للإمارات من أجل الفوز بخلافة حفتر. عقيلة صالح ذهب إلى الإمارات من أجل الإسراع في تثبيت خلفٍ لحفتر موالٍ للإمارات حتى يضمن لنفسه الحماية والدعم. في الوقت الذي سعت فيه مصر إلى وضع الفرجاني "المسؤول الأمني لحفتر على المناطق الشرقية"، محل حفتر، لأن الفرجاني من قبيلة حفتر "الفرجان"، وهو موثوق لدى مصر وينفذ أوامرها - وإن لم يكن في حجم حفتر وقدرته -. وحتى تبقى مصر ومن خلفها أمريكا قابضة على الوضع في الشرق الليبي، وبالتالي لها الدور والتأثير في سير الأحداث في ليبيا، وضمان أدواتها المحليين.
ولكن يبدو أن الرفض قوي في أوساط قوات حفتر للفرجاني لتولي قيادة جيش حفتر ولذلك بدأ تسريب أسماء أخرى لهذا المنصب من مثل اللواء عبد السلام الحاسي في عملية "لتدوير" بعض الفاسدين الذين سبق لهم أن استُخدموا خلال السنوات الأربع الماضية، على قاعدة "الشيطان الذي تعرفه خير من الذي تتعرّف عليه"، غير أن ما يجب أن نعرفه أن أياً من الأشخاص يتم وضعه محل حفتر؛ أكان الفرجاني أو الفاخوري أو الحاسي أو ابن حفتر نفسه، فإنه لن يستطيع إرجاع الحال إلى ما كان عليه، وإذا كان حفتر نفسه قد عجز عن حسم الأمر في المناطق الشرقية، فإن غيره أعجز!
ولن تستطيع أمريكا الآن أن تحسم الأمر لصالحها، وهذا قد يلجئها إلى القبول بتسويات مع الإنجليز والفرنسيين في ليبيا ولو مرحليا. ويمكننا أن نستشرف ذلك من خلال أمور عدة:
1- تصريح منذ مدة لمسؤول أمريكي بأن أمريكا أوكلت إيطاليا بأن تتولى الدور الأمريكي في المسألة الليبية، وقامت يومها إيطاليا باعتراض طائرات قادمة من الإمارات وأخرى مصرية ومنعتها الطائرات الإيطالية من قصف درنة.
2- ثم رأينا في الأيام الماضية إقدام "قوات أفريكوم" الأمريكية على قصف مسلحين في الجنوب الليبي، وقيل إنهم من تنظيم الدولة، وصرحت الإدارة الأمريكية وحكومة السراج بأن ذلك تم بالتنسيق بين الحكومتين، ولم تستعمل أمريكا أو تنسق مع قوات حفتر في هذا الأمر، وهو إشارة تحتاج إلى متابعة، بأنه حدث تغير في الموقف الأمريكي مما يجري في ليبيا.
وعلى كل فإن المراد من الرحلات المكوكية لعقيلة صالح لدولة الإمارات والفاخوري أيضا، والفرجاني إلى مصر، وغيرهم من الشخوص المحلية تجاه هذه العواصم، وما قام به في اليومين الماضيين وفدٌ يضم شخصيات فرنسية وإيطالية وألمانية من زيارة لطبرق، تدل على صورة الموقف الناتج عن غياب حفتر من المشهد، وبأن ما كان عليه الترتيب في وجود حفتر قد اختل وأصبح من الصعوبة بمكان تنفيذه وخصوصا ما كان يُعد له من اجتياح مدينة درنة المجاهدة، بل أصبح وجود قوات حفتر في الهلال النفطي - على رغم أهميته بالنسبة لمصر وأمريكا - أمراً صعباً، فقد بدأت بعض الوحدات المسلحة في منطقة الهلال النفطي بالانسحاب باتجاه الشرق، وهم أي المصريون والأمريكان، وحتى الأوروبيون، يخشون أن ينفجر الوضع الأمني في هذا الجزء من البلاد وتعم الفوضى والتمرد الذي عوامله في المنطقة الشرقية متوفرة، ولذلك فقد تشاور الاتحاد الأوروبي في الوضع في ليبيا وصرح الناطق الأوروبي محذرا "مما يمكن أن يحصل عند غياب حفتر".
ورأت بعض القوى السياسية في طرابلس أن خروج حفتر من المشهد في ليبيا سيكون عاملاً مساعداً للملمة الوضع والخروج بالبلاد من عنق الزجاجة؛ فقد قال عمر أبوشاح عضو المجلس الأعلى للدولة "ما يحدث في المنطقة الشرقية بفرضية وجود مؤسسة عسكرية بقيادة عملية الكرامة هو ليس "إلا تحالف مجموعة قبلية... ومليشيات ما يفرقها أكثر مما يجمعها"، و"أن الصراع في شرق ليبيا بعد خروج حفتر من المشهد سيكون هو العنوان البارز بين (قادة) مختلفين حول تركة حفتر"، و"أن تصريحات وزير خارجية فرنسا بشأن تحسن صحة حفتر، ما هي إلا فرصة لترتيب الوضع ما بعد حفتر ومنح اللاعبين وقتا كافياً لوضع السيناريوهات الجديدة". فما هي هذه السيناريوهات؟!
إن المباغتة التي حصلت للأطراف الداخلية والخارجية؛ إقليمية ودولية، بدخول حفتر في حالة "الغيبوبة" ولعلها "الموت السريري" أربكت هذه الأطراف وجعلتهم يقومون بالأمر ونقيضه، سواء في التعامل مع واقع الخبر أو في الخيارات المتاحة لهم، لدرجة تعمد الكذب والضغط على بعض الأطراف بالخروج للإعلام بأخبار كاذبة عن حالة حفتر، كما هو واضح في تصريح سلامة من أنه "تحادث مع المشير حفتر في الوضع"، فهو كذب صراح، فلم يحدث هذا الاتصال وإنما هو استجابة لضغوط من فرنسا وإيطاليا والإمارات، وفي السياق نفسه جاء تصريح وزير خارجية فرنسا بأن "المشير حفتر تتحسن صحته بعد إجراء الفحوصات اللازمة له".
فقد كشف تصريح ابن حفتر "عقبة" هذا الكذب حيث صرح لموقع "ميدل إيست أي" البريطاني بأن والده يعاني من تليف في الرئة ومن التهاب حاد في الدماغ نتج عنه نزيف في الدماغ وأنه في حالة "غيبوبة".
ففضح بهذا التصريح الأكاذيب التي تصر على تحسن صحته، وقد كانت كل هذه التصريحات المتناقضة من أجل الحصول على الوقت الكافي لتدبر أمر اختيار خليفة له يقوم بنفس الدور، ولكن هيهات هيهات فقد "اتسع الخرق على الراتق"، فهل يكون وضع حفتر والذي جاء في وقت لم تحسب له الأطراف الداعمة أي حساب، سبباً في إرباك "خططهم الممولة" وسبباً في اختلاط الأوراق بعضها ببعض، ويكون مرضه "المميت" بداية صراع دامٍ يبحث فيه كل طرف "محلي" عن مصالحه الشخصية مما يؤدي إلى انهيار مشروع "كرمة حفتر" الذي دعموه بالغالي والنفيس منذ عام 2014 ودفعت فيه مئات الملايين من الدولارات من الشرق والغرب؟ الزمن كفيل بإظهار ذلك.
بقلم: الأستاذ أحمد المهذب
رأيك في الموضوع