عندما يسمع المسلم أو يقرأ هذا العنوان العريض (قمة القدس)؛ يخطر في باله لأول وهلة أن زعماء العرب قد عزّ عليهم ما يصيب القدس، وأهل القدس، والمسلمين في أكناف القدس على ثرى فلسطين الأسيرة، عزّ عليهم ذلك، وعز عليهم أيضا القرارات التي صدرت عن رئيس أمريكا وباركتها قياداتُ يهود، وصارت تعمل - من خلالها - لتكون (القدس الموحدة) عاصمةً أبدية لدولتهم المسخ دون معارض. عزّ عليهم هذا الأمر وذاك؛ فتنافخوا عزةً وشرفا وحرقةً على القدس والأقصى، وعلى الأسرى في القدس وأكنافها، فاتخذوا قرارات مليئة بالحمية والنخوة، ودعوْا لتحريك الجيوش على جبهات القتال؛ ليخلعوا هذا الكيان المغتصب؛ الجاثم على ثرى أرض القدس وأكنافها، ويحرّروا المسرى والأسرى.
ولكن يفاجأ المسلم ويُصدم ولا يكاد يصدق ما تسمع أذناه، أو ترى عيناه من قرارات ذليلة خانعة مستسلمة؛ تصدر عن هذه القمة الذليلة. يُصدم المسلم وهو يقرأ أن أهم قرارات هذه القمة الذليلة هي الاعتراف بأغلب القدس ليهود، والاعتراف بكيان يهود الغاشم المعتدي المغتصب،وبحقه في ثرى فلسطين الطاهر. ويُصدم أيضا وتمتلئ نفسه أسىً؛ عندما يقرأ أحد أهم القرارات الختامية لهذه القمة تقول: بأن السلام هو استراتيجية، وأن قرارات قمة بيروت سنة 2002 هي الأساس لهذه الاستراتيجية المستقبلية! والأنكى من هذا وذاك هو القرار المتعلق بمحاربة (الإرهاب) أي الإسلام، والوقوف في وجهه بكل الطاقات والسبل؛ يدا بيد مع أمريكا؛ بدل الوقوف في وجه يهود المجرمين.
فهل هذه قمةٌ للمحافظة على القدس وأكنافها، أم هي تفريطٌ وتآمرٌ على القدس بمسراها وثراها؟! وأين حقّ المسلمين فيما يسمى بـ"القدس الغربية"؟!.. أين حقوق ما يقرب من ثمانية ملايين مهجّر خارج أرض فلسطين؛ هُجروا من أرضهم وحقهم سنة ثمان وأربعين؟! بل أين حق المسلمين في المغتصبات التي تطوق القدس الشرقية من جميع جوانبها؟! وما هو شكل الدولة، وشكل تقرير المصير الذي ينادي به قادة هذه القمة حسب القوانين والأعراف الدولية؛ أهو قرار التقسيم، أم قرار 242، أم هو اتفاق أوسلو ووادي عربه أم ماذا؟! أهي دولة منزوعة السلاح، أم دولة بمعنى الدول ذات السيادة والنفوذ؛ على أرضها ومائها وسمائها وباطن الأرض فيها؟!
لو رجعنا قليلا إلى مبادئ القمم العربية التي انعقدت سابقا؛ قبل معاهدات السلام مع يهود، وقارناها بالقمم التي أعقبت معاهدات السلام مع كيان يهود؛ فإننا نرى التفريط والتنازل عن كل الثوابت والمبادئ؛ التي قُررت من قبل هذه الدول ومن قبل مؤسستها (الجامعة العربية).. فعلى مستوى الجامعة العربية انعقدت سنة 67 في شهر آب؛ أي بعد اغتصاب ما تبقى من القدس، واغتصاب المسجد الأقصى المبارك، انعقدت هذه القمة في العاصمة السودانية الخرطوم، وخرجت بقرار يقول: "لا صلح، لا تفاوض، لا اعتراف (بإسرائيل)"؛ وسميت هذه القمة "قمة اللاءات الثلاث".. أما ما يتعلق بمنظمة التحرير؛ فإنها تشكلت بعد ضياع فلسطين التاريخية - كما يسمونها - سنة 1964؛ أي قبل اغتصاب ما تبقى من فلسطين سنة 67 ومنها القدس. وجاء في ميثاقها الوطني؛ والذي أقره المجلس الوطني الفلسطيني؛ في دورته الرابعة في القاهرة 17/7/1968؛ أي بعد ضياع فلسطين سنة 67.. المادة الثانية: الشعب العربي الفلسطيني هو صاحب الحق الشرعي في وطنه، ويقرر مصيره بعد أن يتم تحرير وطنه، وفق مشيئته وبمحض إرادته واختياره... المادة الثامنة: الجماهير الفلسطينية؛ سواء من كان منها في أرض الوطن، أو في المهاجر تشكل (منظمات وأفراداً) جبهة وطنية واحدة تعمل لاسترداد فلسطين، وتحريرها بالكفاح المسلح.. المادة التاسعة: أن الكفاح المسلح هو الطريق الوحيد لتحرير فلسطين، وهو بذلك استراتيجية وليس تكتيكاً... المادة الخامسة عشرة: تحرير فلسطين من ناحية عربية هو واجب قومي؛ لرد الغزوة الصهيونية والإمبريالية عن الوطن العربي الكبير، وتصفية الوجود الصهيوني في فلسطين؛ تقع مسؤولياته كاملة على الأمة العربية شعوباً وحكومات، وفي طليعتها الشعب العربي الفلسطيني. الثامنة عشرة: رفض قرار التقسيم لعام 1947 ووعد بلفور، وصك الانتداب، ونصت المادة التاسعة عشرة من الميثاق الوطني، كما نصت المادة السابعة عشرة من الميثاق السابق، على أن تقسيم فلسطين الذي جرى عام 1947 وقيام (إسرائيل) باطلان من أساسهما؛ مهما طال عليهما الزمن؛ لمغايرتهما لإرادة الشعب الفلسطيني، وحقه الطبيعي في وطنه.. المادة الحادية والعشرين: رفض كل الحلول البديلة عن تحرير فلسطين تحريراً كاملاً، ورفض كل المشاريع الرامية إلى تصفية القضية الفلسطينية، أو تدويلها؛ في مقابل ما طرح على الساحتين العربية والدولية بعد الخامس من حزيران 1967 من ترويج للتسوية السياسية على أساس قرار مجلس الأمن الدولي رقم 242 لعام 1967.
هذه أبرز ما نصت عليه قرارات القمم العربية السابقة، وقرارات الميثاق الوطني بعد ضياع الجزء الثاني من فلسطين سنة 67. وهي تناقض كل التناقض، وتخالف كل المخالفة ما يفعله حكام المسلمين هذه الأيام؛ من تنازلات واعترافات بالكيان المغتصب، الجاثم على ثرى فلسطين الطاهر.
وفي الختام نقول: إن أرض فلسطين (أرض الأقصى والمسرى) وأكنافه المباركة، لا يقررها ميثاق هيئة الأمم، ولا القمم العربية؛ سواء في بيروت أو الظهران أو غيرها. ولا يقررها ميثاق منظمة التحرير أو غيرها من هيئات أو مؤسسات. إنما قرارها قرارٌ شرعي إلهيٌّ؛ قرره رب العزة جل جلاله في قوله: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾، وقول رسوله e: «لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ: الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَمَسْجِدِ الرَّسُولِ e، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى» رواه البخاري، والعهدة العمرية التي أجمع عليها صحابة رسول الله e؛ وجاء فيها بخصوص القدس: «وَلَا يَسْكُنُ بِإِيلْيَاءَ (الْقُدْسِ) مَعَهُمْ (أَيْ مَعَ النَّصَارَى) أَحَدٌ مِنَ الْيَهُودِ».. فأرض فلسطين بهذا الفهم الشرعي؛ المستند إلى الأصول المعتبرة شرعا؛ هي أرض خراجيةٌ؛ ملك لكل أمة الإسلام على وجه الأرض، ولا يملك التصرف فيها خلاف ذلك أحد من المسلمين مهما كان. أما الحكم الشرعي المتعلق بها الآن فهو الجهاد حتى تحرير آخر حبة تراب من ترابها الطاهر وإعادتها إلى حظيرة المسلمين. وهو الفهم الذي فهمه كل علماء المسلمين السابقين، ونطقت به الآيات الكريمة في قوله سبحانه: ﴿وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ﴾ [البقرة: 191]، وقوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ﴾ [التوبة: 123]. وهذا ما فهمه القادة العظام من أمة الإسلام على مر العصور؛ أمثال القائد صلاح الدين الأيوبي، والظاهر بيبرس... وغيرهم من قادة عظام في تاريخ هذه الأمة العظيمة.
نسأل الله تعالى أن يكرم أرض بيت المقدس بقادة عظام أمثال هؤلاء؛ في ظل دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، ليعيدوا لها عزتها ومكانتها... اللهم آمين.
رأيك في الموضوع