أعلن رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري نهار السبت ٤ تشرين الثاني/نوفمبر وبشكل مفاجئ استقالته من منصبه. وتلا الحريري بيان استقالته أثناء وجوده في السعودية، وهاجم في بيانه كلاً من إيران وحزبها في لبنان، مشيرا إلى أنه لمس مخططا لاغتياله. وأتت هذه الاستقالة من دون أي تمهيد، بل كانت الأجواء السياسية الداخلية في لبنان بين الأفرقاء في وئام تام، لدرجة أنه سبق استقالته توقيعُه لمرسوم تعيين سفير للبنان في دمشق قبل أسبوع واحد، وهذا يعني أن قرار استقالته لم يكن نابعا من شخصه ولم يكن يعلم به بل تم إبلاغه بذلك بعد استدعائه إلى المملكة.
إن الاستقالة هذه تشكل انقلاباً على التسوية التي صيغت السنة الماضية والتي نتج عنها انتخاب حليف حزب إيران ميشيل عون رئيساً للجمهورية وتشكيل الحكومة تباعاً. هذه التسوية التي صاغتها أمريكا في آخر عهد أوباما وبشكل سريع جاءت ضمن ظروف دولية ووقائع إقليمية معينة، خصوصا في ما يتعلق بالوضع في سوريا. هذه التسوية تمت ترجمتها في داخل لبنان على أنها انتصار للمحور الحليف للنظام السوري والتي كلفت سعد الحريري بأن يخسر شعبيته بشكل كبير. وقد قام الحريري وتياره بأعمال سياسية عدة ليسترجع بعضاً مما خسره لكن كل تلك الأعمال لم تؤتِ أكلها، وبقيت شعبية تياره في حالة تدهور، فكان لا بد من إعادة إنتاج تياره وتعويمه سياسيا وعدم ترك المسلمين المناصرين لثورة الشام بأن ينحوا منحى خارج الإرادة السعودية ومن ورائها أمريكا.
وأيضاً منذ ذلك الوقت تغير كل من الإدارة الأمريكية ونظرة أمريكا إلى الوضع في سوريا. فإدارة ترامب والحزب الجمهوري يجنحون بشكل عام نحو إبراز العداوة لإيران مع بقاء التنسيق معها خفياً، بعكس أسلوب إدارة أوباما. ويبدو أن أمريكا مطمئنة للجهود التركية - الروسية في تنفيذ سياسة احتواء ثورة الشام ضمن مخطط "مناطق خفض التصعيد". مما يجعل الاعتماد السابق على إيران وحزبها أمراً بحاجة لتحجيمه دون إقصائه. والدليل على هذه السياسة هو رفض ترامب توقيع الاتفاق النووي مع إيران وإحالته إلى الكونغرس الأمريكي مما يعني أنه ينحى منحى مخالفاً لإدارة سابقه أوباما الذي أنجز الاتفاق لإطلاق يد إيران في المنطقة كي تكون مرتكزاً أساسياً لأمريكا في حربها ضد الإسلام والمسلمين خصوصا في سوريا. فأتت استقالة الحريري ضمن هذا السياق.
إن الكيان اللبناني كيان هش وضعيف ولا يمكن التحكم به من قبل طرف داخلي بسبب تركيبته الطائفية. فخلال عام ٢٠١٧ كانت زيارات المسؤولين الأمريكيين وتدخلهم في السياسة الداخلية اللبنانية أمراً واضحاً لكل متابع للأحداث. إن أمريكا تقليدياً كانت تتدخل وتدير شؤون لبنان بشكل غير مباشر أي عن طريق دولة إقليمية. فقد اعتمدت على مصر عبد الناصر في الستينات، ثم كرست هيمنتها على لبنان في التسعينات وأوائل الألفية الثانية عبر استخدام النظام السوري من خلال اتفاق الطائف سنة ١٩٨٩ والتي كانت السعودية (فهد بن عبد العزيز) جزءًا منه. وفي الأشهر الأخيرة ازدادت وتيرة زيارات سياسيي لبنان إلى السعودية وازدادت معها تصريحات مسؤولي الخارجية السعودية في ما يتعلق بالداخل اللبناني، والاستقالة أُعلن عنها من السعودية عبر قناة العربية التابعة لها، فالمكان الذي تم إعلان الاستقالة منه له دلالة أن شؤون لبنان الداخلية أصبحت بيد السعودية سلمان الذي تقف من ورائه أمريكا.
ومنذ بداية الأزمة بدأت تتعالى الأصوات الداخلية بخصوص وضع الليرة اللبنانية واحتمال أن تستعمل السعودية السلاح الاقتصادي ضد لبنان، وهذه التهديدات وكأن المقصود منها إرغام الداخل اللبناني للانصياع للأوامر التي ستأتي لاحقاً.
وبعد تلاوة سعد الحريري لبيان الاستقالة تم الإعلان عن اعتقال عدة أمراء بتهمة الفساد، بحسب ما أعلنته السلطات السعودية، وكذلك تم الإعلان عن استهداف مطار الملك خالد في الرياض بصاروخ باليستي مصدره اليمن. إن توقيت الاستقالة لم يكن صدفة بل جاء توقيتها وتوقيت سقوط الصاروخ للتغطية على الاعتقالات والتي كان من ضمنها اعتقال الأمير متعب بن عبد الله قائد الحرس الوطني، إلا أن الشكل الذي تمت به الاستقالة ينم عن ركاكة في التنفيذ وهذا يعود لضعف وافتقار الخبرة السياسية لكل من إدارة ترامب وولي العهد محمد بن سلمان وسعد الحريري نفسه.
وبالمختصر أتت استقالة سعد الحريري من رئاسة الحكومة اللبنانية بأمر من السعودية سلمان ومن ورائه أمريكا وذلك:
أولاً: لتعويم تياره سياسياً داخل لبنان
ثانياً: ليتماشى مع مصالح أمريكا وأسلوب إدارتها في الشرق الأوسط وذلك في إعادة رسم الدور الإيراني فيه.
ثالثاً: لتكريس هيمنة السعودية على لبنان وإدارة شؤونه الداخلية تبعاً لمصالح أمريكا.
إن استقالة الحريري تؤكد أن لبنان دولة هشة ومن السهل اختراقها وهي تفتقد لأدنى شكل من السيادة والاستقلال، وأن هناك شبه استحالة للكيان بأن يتخلص من النفوذ الغربي عليه في ظل تركيبته الحالية والتي تستدعي دائما ومن وقت إلى آخر تدخلاً غربياً لإدارة شؤونه وذلك تبعاً لمصالح الغرب نفسه. وهذه الدوامة تتكرر منذ أواخر الدولة العثمانية والتدخل الفرنسي - البريطاني في جبل لبنان مرورا بإعلان الجنرال الفرنسي غورو دولة لبنان الكبير سنة ١٩٢٠م وإعلان ما يسمى بالاستقلال سنة ١٩٤٣م بعد ضغط بريطاني على فرنسا إلى يومنا هذا بعد أن ورثت أمريكا مناطق نفوذ الاستعمار القديم. وهذا لم يجلب لأهل البلد سوى الشقاء وضيق في العيش وحالة من الضياع وعدم الاستقرار.
بقلم: عبد اللطيف داعوق
* نائب رئيس المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية لبنان
رأيك في الموضوع