أقدم بيجديمون رئيس الحكومة في كتالونيا وبأغلبية أعضاء برلمانها على إعلان الاستقلال يوم 27/10/2017، وقد تجرأ على ذلك بعدما تمكن من إجراء الاستفتاء يوم 1/10/2017 وكانت نتيجته 90% من 43% من المقترعين. ولم تتمكن إسبانيا من عرقلة إجرائه، ومن ثم أعلن بيجديمون الاستقلال مع وقف تنفيذه، ولم تقم إسبانيا بتفعيل المادة 155 بإلغاء الحكم الذاتي، فظن أنه إن أعلن الاستقلال فلن تقوم إسبانيا بإجراءات حازمة. علما أنها بملكها وحكومتها ومحكمتها الدستورية وبمجلس شيوخها عارضت ذلك كما عارض الاتحاد الأوروبي الذي تنتمي له إسبانيا.
إنه من الحقائق السياسية في مثل هذه الحالة، أنه لو وافق كل الشعب في كتالونيا لن يتحقق الاستقلال إلا بإحدى ثلاث: إما أن توافق حكومة المركز كما حصل في جنوب السودان إذ وافق النظام السوداني برئاسة البشير على ارتكاب الخيانة باعترافه باستفتاء الجنوب وبإعلان استقلاله، وإما بالقوة العسكرية لدى الإقليم حيث يجبر المركز على الموافقة على استقلاله كما حصل مع إيرلندا الجنوبية عام 1923 عندما انفصلت عن بريطانيا، أو بدعم وبتدخل خارجي وضغوطات خارجية كما حصل مع تيمور الشرقية بانفصالها عن إندونيسيا، ومع كوسوفا وغيرها من توابع جمهورية يوغسلافيا، وإما بتفاهم الطرفين المتحدين فدراليا كما حصل في تشيكوسلوفاكيا. وإلا فلا يمكن أن يحصل الاستقلال، ولهذا لم يستطع البرزاني أن يحقق استقلال إقليم كردستان عن العراق رغم دعم بريطانيا وأوروبا، لأن قوة أمريكا المعارضة حاليا لاستقلال الإقليم وقواها في المنطقة من العراق إلى تركيا وإيران وفي داخل الإقليم من حزب الاتحاد الوطني وحزب التغيير كانت أقوى من الإنجليز والأوروبيين.
ورغم ذلك فإن فكرة الاستقلال كامنة لدى شعب كتالونيا ولها ماض تاريخي، ولكن تطبيقها عمليا ينتظر الظروف الداخلية في إسبانيا والظروف الإقليمية في الاتحاد الأوروبي والظروف الدولية بمساعدة أمريكا. فإذا ضعف المركز أو تحركت أقاليم أخرى وحذت حذو كتالونيا، وإقليم الباسك المجاور دعم استفتاء واستقلال كتالونيا، وأعلن أنه سيقدم على مثل ذلك العام القادم، وهو الإقليم الذي خاض نزاعا مسلحا لعقد من السنين، فوجدت لديه روح التمرد المسلح، فإذا حصل مثل ذلك فإنه سيكون نذير شؤم لإسبانيا وللاتحاد الأوروبي، وإذا تدخلت أمريكا وبدأت تدعم ذلك سرا على الأقل فإن الأمر سيكون جد خطير. لأن من أهداف أمريكا إشغال الاتحاد الأوروبي بمشاكله الداخلية، ومن ثم تمزيقه حتى لا يعود قوة دولية يمكنها أن تنافس أمريكا أو تشوش عليها في الساحة الدولية.
ولقد رأينا إسبانيا تقوم بخطوات حذرة خوفا من انقلاب الأمر عليها وبتفجر الوضع في أقاليم أخرى وتأليب الرأي العام عليها كما حصل عندما استخدمت القوة لمنع الاستفتاء. وعلى إثر إعلان الاستقلال قامت إسبانيا واعتقلت ثمانية من وزراء حكومة الإقليم، فاحتج أهل الإقليم بمظاهرات حاشدة، مما ينذر بتأزم الوضع، لأنه عندما يقوم الشعب بالدفاع عن قادته ويعمل على إنقاذهم فإن الوضع ينذر بالتصعيد وبأزمة يصعب حلها. ولكن رئيس الإقليم لجأ إلى بلجيكا ليجد مخرجا وحماية بعدما صدرت ضده مذكرة توقيف في إسبانيا. ولكن لم يقبل أي مسؤول أوروبي لقاءه، فبقي أن يلجأ إلى القانون البلجيكي لعله يجد حماية، لأنه يوجد سابقة قانونية إذ رفضت بلجيكا تسليم مطلوبين من قبل إسبانيا بتهمة تورطهما مع حركة إيتا المسلحة في إقليم الباسك، والحكومة البلجيكية الائتلافية يشارك فيها الحزب القومي الفلامنكي الذي لديه نزعات الاستقلال لشمال بلجيكا الفلامنكي. ولهذا صرح وزير الهجرة البلجيكي ثيو فرانكين بأن "منح بيجديمون اللجوء السياسي أمر ليس مستبعدا إذا طلب ذلك". بينما خطت إسبانيا خطوة متناقضة إذ أعلنت يوم 29/10/2017 أن بإمكان بيجديمون المشاركة في الانتخابات التي أعلنت عن إجرائها في الإقليم يوم 21/12/2017، وهي لم تلغ الحكم الذاتي رغم موافقة مجلس الشيوخ على ذلك وقد ترك تحقيق الأمر للحكومة. وأعلن بيجديمون يوم 3/11/2017 أنه سيشارك في انتخابات الإقليم، وفي ذلك تناقض؛ فهو يعلن الاستقلال ومن ثم يقبل بإجراءات إسبانيا من إقالته وحكومته وبرلمانه وفرض الوصاية المباشرة وإعلان انتخابات في إقليمه! وهذا يدل على عجزه وعدم قدرته على تحقيق الاستقلال والقبول بالأمر الواقع، وقد فشل في الحصول على صلاحيات أكثر لحكمه! وأمريكا لا يمكن أن تتحرك علنا لتساعده، لأن أمرها سينكشف أمام حلفائها بأنها تعمل ضدهم بسعيها لتمزيق الاتحاد الأوروبي ودوله، فتفقد مصداقيتها أمامهم وتؤلبهم عليها، فعندما أيدت خروج بريطانيا من الاتحاد تألبت دول الاتحاد ضد أمريكا وجعلها تتمسك بالاتحاد.
إن إسبانيا واقعة في مأزق ووضعها حرج فتخشى من استخدام القوة أن تكون ردود فعل تؤدي إلى تمرد مسلح، وتخشى إلغاء الحكم الذاتي فإن ذلك سيؤدي إلى ردود فعل أيضا، وتخشى تمردات أقاليم أخرى وخاصة إقليم الباسك. ومن ثم تنتقل العدوى إلى مناطق أخرى في أوروبا، مما يلحق الضرر بالاتحاد الأوروبي فيشغله في مشاكله الداخلية التي كان في غنى عنها وكان كل شغله الشاغل هو تأكيد الاتحاد الهش القائم بين 28 دولة أوروبية وعدم تفككه.
إن المشكلة تكمن في المبدأ الرأسمالي الذي يعتنقه الأوروبيون والذي أساسه العلمانية ونظامه الديمقراطية ومقياسه النفعية، إذ لم يستطع أن يعالج القومية ويصهر شعوب معتنقيه في بوتقة أمة واحدة في ظل دولة واحدة، بل لم يستطع أن يصهر شعوب الدولة الواحدة في بوتقة واحدة، ففي كل دولة تقريبا توجد حركة انفصالية أو أكثر، ودول الاتحاد الأوروبي ترفض أن تتنازل عن هويتها القومية وتذوب في بوتقة الاتحاد، فلم تتمكن من الوحدة، بل لم تتمكن من إقامة دولة فدرالية تضم كل كياناتها، وهذا كله دليل على فساد وبطلان المبدأ الرأسمالي وفساد وبطلان علمانيته وديمقراطيته ومقياسه. وقد عانت هذه الشعوب من حروب قومية طويلة وصراع على المصالح والمنافع على مدى مئات السنين أدت إلى ضعفها وتفككها وتسهيل سيطرة الغير عليها، وآخر حرب هي الحرب العالمية الثانية بين دولها حيث أدت إلى مقتل عشرات الملايين من أبنائها وخراب ديارها.
بينما نرى الإسلام قد نجح نجاحا منقطع النظير في صهر الشعوب والأعراق المختلفة في بوتقة واحدة وجعلهم أمة واحدة في ظل دولة واحدة دامت وسادت العالم 13 قرنا مدللا بشكل عملي على صحته، فهو البلسم الشافي لعلاج القومية المنتنة التي تسبب النزاعات والحروب والتفرقات والانقسامات. فما على الأمة الإسلامية أمة الخير، المسؤولة عن البشرية إلا أن تقيم دولتها دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة لتحمل إلى أوروبا المبدأ الإسلامي لتنقذها من التعاسة التي هي غارقة فيها والشر المحدق بها بسبب القومية وغيرها من المشكلات العويصة التي تسبب بها مبدأ الشر الرأسمالي وعلمانيته وديمقراطيته ونفعيته.
رأيك في الموضوع