إنه لا سبيل لإحداث تغيير في أي مجتمع من المجتمعات دون استهداف العلاقات الدائميّة التي تربط أفراد هذا المجتمع والتي تتجسد في أفكاره ومشاعره ومقاييسه وقناعاته. قال تعالى: ﴿إِنَّ اللهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾. ولذلك فإن بناء المجتمع الإسلامي، يمرّ بالضرورة عبر إيجاد الأفكار الإسلامية والمشاعر الإسلامية والمقاييس الإسلامية والقناعات الإسلامية، لتحل محلّ ما دأبت على غرسه مزارع الاستعمار من مفاهيم غربية وثقافة دخيلة ومقاييس لا تمت للإسلام بصلة.
فالأمر كلّه مرتبط بوجود قيادة تنجح في إبراز أفكار التغيير وإيجاد رأي عام حولها، بحيث تحصل على ثقة المجتمع ويلتف حولها سائر الناس عن قناعة وثقة واطمئنان، ليصبح الإسلام قيادة فكرية ينصهر الجميع في بوتقته، قادة ومقودين، ويكون القانون فوق الجميع فعلا، لا مجرد شعار كما هو الحال في الدول العلمانية التي لم تدخر جهدا في تفريغ الأمة من المفاهيم العقائدية والأحكام الشرعية التي تضبط وتنظم شؤون المجتمع والدولة كما يحبّ الله ويرضى.
ولذلك كان لزاما على حملة الدعوة الانتباه إلى دور القوى الحيّة في عملية التغيير، فضلا عن بناء القاعدة الشعبية، لأن التأسّي بطريقة رسول الله ﷺ في التغيير وفي بناء الدولة الإسلامية يوجب على حملة لواء الإسلام وقادة عمليّة التغيير عدم الاقتصار على عامّة الناس، أو على بناء القاعدة الشعبية وتوسيعها، إلى جانب بناء الكتلة داخليّا، بل لا بد من إشراك القوى الفاعلة في عمليّة التغيير من أمن وجيش ورجال قانون وغيرهم، ومن طلب النصرة ممن يمتلك قوّة تعيد للأمة سلطانها وتحكم شريعتها وتصهرها في كيان واحد على أنقاض الأنظمة القائمة.
إن التغيير على أساس الإسلام، يوجب الاهتمام بمفاصل المجتمع ومراكز وعيه، توازيا مع الاهتمام بالتنظيم الشعبي، لأن القوى الحيّة والفاعلة في المجتمع هي بمثابة المفاصل في الجسد، تحرك الجسد بأكمله إلى حيث يريد الدماغ، وهنا تكون القيادة السياسية الواعية والرشيدة بمثابة الدماغ لجسد المجتمع.
صحيح أن المشهد الحالي في أواخر عهد الملك الجبري، يوحي بأن مختلف هذه القوى قد اصطفت في خندق الاستعمار لصالح الدولة القطرية العلمانية، ولكن النظرة العميقة لحقيقة القوى الحيّة في مجتمعاتنا، تري أن الاستعمار قد انتدب أراذل الناس وأشدهم كرها للإسلام وحقدا على أهله وأكثرهم تمسحا على أعتاب السفارات الأجنبية، ليؤهلهم للمراتب العليا والمراكز الحساسة في الدولة ويقدمهم إلى الصفوف الأولى في الحكم والتشريع، وكذلك دأب منذ هدم دولة الخلافة مطلع القرن العشرين، بقيادة مجرم العصر مصطفى كمال. ولكن ذلك لا يعفي بقية القوى الفاعلة في الصفوف الموالية، من واجب التغيير الجاد على أساس الإسلام، بل الأصل أن يكون ذلك حافزا لهم لإتمام عمليّة التغيير بالإسلام لا سببا لليأس والإحباط. قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾.
إنه لم يعد هناك من شك، حول فساد المنظومة الفكرية والتشريعية التي يقوم عليها النظام الحالي، فكل مظاهر الفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والأخلاقي قد استشرت في مجتمعاتنا، حتى ساد الظلم وصار الفساد يمشي عاريا في الأسواق وأظهر من أن يشار إليه بالإصبع، ولذلك فإن قيام كيان تنفيذي على أساس الإسلام هو رغبة ملحة يطلبها واقع الانحدار السياسي فضلا عن كونه واجبا شرعيا في رقاب الجميع، لا يُستثنى من ذلك أحد. قال تعالى: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ﴾.
ولذلك، فإن استحضار الثروة الفقهية والتشريعية التي تزخر بها الثقافة الإسلامية هو من أوجب الواجبات التي يجب أن يتسلح بها رجال الفكر والقانون من نخب ومحامين وقضاة وأساتذة قانون، وإن استحضار تاريخ الأمة الحافل بالانتصارات وما سطره قادتها العظام من إنجازات مثلت صفحات مشرقة من تاريخ أمتنا المجيد، لهو أمر واجب ومطلوب لدى القوات الحاملة للسلاح، أمناً وجيشا، بل على قادة الجيوش وضباط الأركان وكافة رتب القوات المسلحة وأهل القوة والنجدة في بلادنا أن يضعوا نصب أعينهم بأن العقيدة العسكرية التي تستحق النضال والاستشهاد في سبيلها، هي عقيدة لا إله إلا الله محمد رسول الله ﷺ، بها نحيا وعليها نموت وفي سبيلها نجاهد وبها نبعث إن شاء الله. فقط عليهم أن يفكروا في كيفية تنزيل الأحكام الشرعية نفسها التي التزمها القادة الفاتحون والزعماء المجاهدون على واقعنا اليوم، وأن يستخلصوا الدروس والعبر ليغيروا مجرى التاريخ من جديد، كما غيره أجدادنا وأسلافنا من قبل. فالإسلام قوة تشريعية رهيبة لا بد له من هيبة وشوكة، ولا يكون ذلك إلا بدولة ترعى شؤون الناس في جميع مجالات الحياة، لكل فيها دور حسب مجال اختصاصه. بل لا بد من إحياء الأوساط الفقهية والفكرية والسياسية والعلمية، بحيث يكون الإسلام وحده أساسا للفكر ومكيفا للسلوك ومحددا لبوصلة التغيير.
ختاما، فإن الغرب حريص على مغالطة الناس وإبعادهم جميعا (خاصتهم وعامتهم) عن مباشرة عمليّة التغيير، ومن أدواته حصر الصراع في أشخاص، بحيث يكون صراعا شكليا على الحكم، وعلى تمديد عمر النظام الفاسد نفسه، وإعطائه جرعات إضافية وإكسابه مزيدا من الشرعية لإنقاذه من السقوط، مع أن الأزمة متأتية أساسا من تطبيق هذا النظام الذي يتسابقون على المشاركة فيه، مع أنها مشاركة في جريمة وأي جريمة. إنها جريمة الحكم بغير ما أنزل الله!
ولذلك يجب على من يسير في طريق التغيير أن يعي على أمور عدة:
أولا: أن الرغبة في التغيير الجذري حقيقية مهما حاول الإعلام المضلل إخفاءها، وهي رغبة كامنة في الأمة لم يعد بمقدور أي جهة انتزاعها من الصدور.
ثانيا: أن إسقاط الأنظمة الحالية هي ممكن سياسي، متى توفرت أسباب ذلك والتفّت القوى الفاعلة حول قيادتها في الاتجاه الصحيح، وأن هذا الأمر كلّه إن تأخر، فهو لحكمة لا يعلمها إلا الله سبحانه وتعالى.
ثالثا وهو الأهم: أن النصر بيد الله تعالى، وهذه عقيدة لدى المسلمين. قال تعالى: ﴿... وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾.
وعليه، فنحن مطالبون باتخاذ الأسباب في الدائرة التي نسيطر عليها، وأن يكون بحثنا في كيفية ذلك، أما النتائج فالله هو المتكفل بها، قال تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِن دُونِهِ﴾.
رأيك في الموضوع