كما يقال بأن احتفالات المستعمر هي نكبات عند من استعمره، وكيان يهود مستعمر، أعياده واحتفالاته هي في حقيقتها محطات ونكبات أصابت قضية فلسطين وأمة الإسلام، ومن هذه المحطات المظلمة ما يطلق عليه مسيرة الأعلام، وهي احتفال سنوي بما يطلق عليه كيان يهود بيوم "توحيد القدس" ويعتبره عيداً وطنياً لإحياء ذكرى استكمال سيطرته على مدينة القدس واحتلال الجزء الشرقي منها وخاصة المسجد الأقصى والبلدة القديمة وذلك خلال مسرحية حرب حزيران/يونيو عام 1967.
ويحتفل كيان يهود منذ عقود بهذه الذكرى بمسيرة يطلق عليها مسيرة الأعلام، فيحتشد الآلاف من مستوطنيه حاملين أعلام كيانهم للتعبير بعنجهية عن السيطرة والنفوذ ويتحركون وفق مسار معتاد يمر من بابين من أبواب البلدة القديمة هما باب الخليل والجديد حتى تصل المسيرة إلى باب العامود حيث تواجه بالعادة تصعيداً وتصدياً من أهل القدس الصامدين المرابطين وذلك رغم كل الحواجز التي تنصبها الشرطة بالعادة لمنع تعرض المقدسيين ومن يؤازرهم من أهل فلسطين للمسيرة.
وهذه المسيرة ونظراً للتغيرات السياسية الحاصلة خاصة في السنوات الأخيرة وكلها لصالح كيان يهود، ومنها اعتبار الولايات المتحدة مدينة القدس عاصمة له ونقل سفارتها إليها، واعتبار المسجد الأقصى مكاناً مقدساً عند الديانات الثلاث، والتطبيع المتتابع ودون أدنى مقابل من الأنظمة العربية، وتمسك السلطة الفلسطينية بمشروعها الاستثماري لجمع المال والتفريط بكل شيء حتى فتات الفتات من القضية، نظراً لكل تلك التغيرات وفي ظل تصاعد شعبية جماعات اليمين وسيطرة أحزابها على الحكومة والمعارضة وسعيها لإرضاء جمهورها الذي بات يتحرك بهوس توراتي لتقسيم المسجد الأقصى وبناء الهيكل المزعوم، باتت المسيرة أداة سياسية لفرض وقائع جديدة وترسيخ مخططات متعلقة بالمسجد الأقصى ومدينة القدس، حيث تخطط جماعات الهيكل هذه المرة لتنفيذ اقتحامات بأعداد كبيرة للمسجد يتم خلالها رفع علم كيان يهود وغناء النشيد القومي وأداء الصلوات الجماعية العلنية ثم المشاركة في مسيرة الأعلام عصراً.
إن هذه المسيرة في جميع أحوالها وطقوسها ومساراتها هي جزء من عملية التهويد المستمرة لمدينة القدس وفرض التقسيم الزماني والمكاني للمسجد الأقصى خاصة بعد قرار محكمة الصلح التابعة لكيان يهود والذي استبق المسيرة بأيام فقط ويقضي بالسماح للمستوطنين بأداء الصلوات التلمودية بصوت عالٍ وما يشبه "الركوع" أثناء الاقتحامات التي باتت شبه يومية للمسجد الأقصى، وقد نص قرار المحكمة على أن جملة "شيماع يسرائيل" وتعني: "اسمع يا إسرائيل" والانحناء على الأرض داخل المسجد أمر لا يمكن تجريمه، وكانت المحكمة ذاتها العام الماضي قد سمحت بما يسمى بالصلوات الصامتة، وهذا كله يأتي في سياق التمهيد لعملية التقسيم للمسجد، ولا يغير من حقيقة هذه المحاولة قرار المحكمة المركزية لكيان يهود بإلغاء قرار محكمة الصلح الذي يسمح للمستوطنين بالصلاة، فالتوجه واضح وصريح ولو اختلفوا سياسياً على التوقيت وآلية التنفيذ.
ورغم خطورة ذلك التسخير للمسيرة لفرض وقائع جديدة تخدم كيان يهود إلا أن التركيز الكبير والمقصود على تفصيلاتها وخط سيرها، وهل تدخل الحي الإسلامي أو لا تدخله، وحصر الحديث في ذلك هو زوبعة إعلامية تغطي على أصل المصيبة، وهي وجود هذا الكيان الغاصب على هذه الأرض المباركة، وهو محاولة لإشغال الرأي العام بشكل تام وخاصة في خارج فلسطين بتفصيلات وتفريعات لا تؤثر في حجم الكارثة الحاصلة، فمجرد احتلال جزء من الأرض المباركة مصيبة، فكيف وإذ بها كلها محتلة؟! وكيف وإذ المسجد الأقصى يدنس بشكل شبه يومي حتى وصل عدد من دنسوه العام الماضي 34 ألف مستوطن؟! ووصل الحال بالمستوطنين أن ينظموا جولات إرشادية ودروساً توراتية عن الهيكل المزعوم في ساحاته وتنظيم مباركة حاخامية واحتفالات بلوغ للذكور والإناث وإشهار الزواج ومباركته، بالإضافة إلى قراءة مزامير التوراة حتى تفاخرت جماعات الهيكل بالنفخ في البوق (أحد الطقوس التوراتية) داخل الأقصى لأول مرة منذ احتلال القدس وأدخلوا سعف النخيل (ثمار عيد العُرش) إلى المسجد، كما رفعوا علم كيانهم في ساحات المسجد الأقصى.
إن أهل فلسطين هم شوكة في حلق يهود وهم يدافعون عن المسجد الأقصى ومدينة القدس رغم أنهم تحت احتلال ويجبرونه في بعض الأحيان على تغيير مخططاته الحاقدة والتعديل في تفصيلاتها وتأجيل بعضها، ولكنهم في الحقيقة مستضعفون بحاجة إلى أمة تنصرهم وجيوش تهزم عدوهم، وهذا ما لا يريد الإعلام التابع للأنظمة العميلة المطبعة إظهاره، فيركز على التفصيلات والتفريعات وما يقوم به أهل فلسطين وما قد يحصل ويشغلون الأمة بشكل تام بذلك ويحرفون أنظارها عما هو الواجب الذي يترتب عليها؟ وكيف يكون الخلاص؟ وأين تكمن الخيانة والعمالة؟ وما هو الواجب تجاه الأنظمة المطبعة؟ وغيرها من التساؤلات والأفكار السياسية التي إن أثرت في الأمة وحركتها كانت الطامة على كيان يهود والغرب والدول الكبرى، فيُشغل الأمة بموقف أهل فلسطين المستضعفين من المسيرة وجرائم كيان يهود بدل أن تنشغل الأمة بموقفها هي منهم ومن نصرتهم.
وفي الختام: إن مسيرة الأعلام بغض النظر عما سيلحق بها وما يرافقها ووتيرة التصعيد وحجمه وطبيعته هي وصمة عار في جبين أنظمة الخيانة والتطبيع، وهي صفعة سنوية تذكر أمة الإسلام بمصيبة احتلال المسجد الأقصى وكيف سلمه النظام الأردني الخائن خدمة لمخططات بريطانيا ومشروعها للسلام مشروع الدولة الواحدة في ذلك الوقت، وتذكر هذه المسيرة الحاقدة الأمة الإسلامية أن المسجد الأقصى ليس بخير وأنه يدنس بشكل شبه يومي وليس مرة في العام وإن كانت كافية للشعور بمرارة الهزيمة، وأنه يتعرض لمحاولة حقيقية لتقسيمه وأنه يستصرخ أمة الإسلام لتنقذه من غطرسة كيان يهود وحلم مستوطنيه بهدم قبة الصخرة وبناء الهيكل المزعوم، وأن الأمة الإسلامية هي الجهة القادرة على ذلك وهي الجهة المكلفة بنص الوحي، قال تعالى: ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾.
بقلم: الدكتور إبراهيم التميمي
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة (فلسطين)
رأيك في الموضوع