بفخر واعتزاز غريبين، دوّن وزير الشؤون الدينية السوداني، نصر الدين مفرح على صفحته على الفيسبوك الآتي: "أحبتي اجتمعت اليوم إسفيرياً مع مفوضية الحريات الدينية في الولايات المتحدة الأمريكية، ووضعنا بين أيديهم التطور الذي أحرزته الحكومة الانتقالية في هذا الملف، ووضع الإصلاحات والتعديلات التي تمت في التشريعات والقوانين، التي تتسق مع جوهر الدين الحنيف ومنهج الاعتدال والتعايش السلمي، من جانبهم رحب ممثلو المفوضية بالتقدم السوداني في الحريات وحقوق الإنسان، وبينوا أنهم يدفعون بشدة لرفع اسم السودان نهائياً من قبل الإدارة الأمريكية من قوائم الدول الراعية للإرهاب". (20 تشرين الثاني/نوفمبر 2020م).
فما هو مفهوم الحريات الدينية؟ وهل هو مفهوم أصيل في دين الإسلام؟ وهل السودان ولاية أمريكية كي يضع هذا الوزير بين يديها تطورات إصلاح وتعديلات التشريعات في السودان؟ وهل يتسق قانون الله سبحانه مع الحريات الدينية؟
ينص قانون حرية الأديان على أن الولايات المتحدة دولة مدنية، فلا تحل القوانين الدينية محل القوانين المدنية بأي حال من الأحوال. ويطبق هذا على كافة الديانات، ويساهم التعديل الدستوري الأول الذي يحدد إطار الحرية الدينية في فرض المساواة بين الناس المتدينين على اختلاف أديانهم.
تفسير حيثيات هذا القانون حسب مشروع "تعليم التسامح" الصادر عن مركز القانون "ساذرن بافرتي" ومركزه واشنطن العاصمة، يفضي إلى أن هذا القانون يضمن حرية العقيدة للجميع. وتنص القوانين الأمريكية على أن الحكومة لا يمكنها أن تسن القوانين واللوائح التي تستهدف ممارسة الشعائر الدينية.
كقاعدة عامة في أمريكا، تحمي الحكومة حقوق المتدينين والمؤسسات الدينية لكي يستطيعوا ممارسة دياناتهم بحرية دون تدخل الدولة، ولا يجوز للحكومة أن تفرض الالتزام أو المشاركة بممارسة أي من الشعائر الدينية. وبخصوص الحقوق الدينية والقضاء، لا يمكن للحكومات أو المحاكم أو الهيئات الإدارية أو المشرعين، التدخل لتفسير القوانين الدينية، ولا تطبيقها داخل المحاكم لفض النزاعات أو في حالات الطلاق أو حضانة الأطفال.
وكانت أول مرة تقدم أمريكا فيها نموذجها للحريات الدينية في 5 آب/أغسطس 2013م، إذ عقد مؤتمر الحريات الدينية في أمريكا، حيث عقد ممثلون عن مختلف الديانات المتبعة مؤتمراً لمناقشة خريطة عمل توحد الديانات على اختلاف طقوسها واعتقاداتها تحت العلم الأمريكي، لانسجام التعدد الديني كحق مرسخ في الدستور الأمريكي الذي يضمن حرية العبادة والمعتقد للجميع. عرضت قناة الحرة تقريرا عن المؤتمر مع نموذج لكلمات المؤتمرين، وعرض لكتب الديانات كلها يتوسطها القرآن الكريم.
كما نشر مكتب المتحدّث الرسمي في وزارة الخارجية الأمريكية في حزيران/يونيو 2020م تصريحات صحفية لوزير الخارجية مايك بومبيو في مؤتمر صحفي حول إصدار تقرير الحريات الدينية الدولية لعام 2019م، وقال أيضا: "يجب أن يمتد ملف الحريات الدينية إلى جميع مجالات سياستنا الخارجية". ولهذا السبب، نرى ترامب قد أعلن عن أول أمر تنفيذي على الإطلاق يوجّه الحكومة الأمريكية بأكملها إلى إعطاء الأولوية لقضية الحريات الدينية، والذي يعطي الأولوية للحرية الدينية الدولية في تخطيط وتنفيذ السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وفي برامج المساعدة الخارجية، وقال: "أطلقنا التحالف الدولي للحرية الدينية، وقمنا بتدريب ضباط الخدمة الخارجية لدينا على فهم قضايا الحرية الدينية بشكل أكثر عمقاً"، وقال بومبيو إنهم "يجمعون تقارير هائلة عن الحريات الدينية من جميع أنحاء العالم"، وأسماها محاسبة شاملة لهذا الحق الإنساني الأساسي، وهذا هو سبب اللقاء الإسفيري لوزير الشؤون الدينية السوداني ليقدم توضيحات عن وضع الحريات الدينية في السودان.
وبذلك يفاخر بومبيو بأنه أول وزير خارجية أمريكي ينظّم تحالفاً دولياً على مستوى القيادة الوطنية لدفع قضية الحرية الدينية إلى الأمام في جميع أنحاء العالم. وفي العام الماضي أطلق مبادرة الإيمان الإبراهيمي للدفع من أجل السلام بين المسلمين والنصارى واليهود، حيث قال إنه يريد إشراك علماء اللاهوت الرئيسيين لكل الأديان، وهذه الشراكة هي بمثابة دين جديد، تشرف أمريكا على تقييد كل العالم به، لذلك كان محور اللقاء الإسفيري الرئيسي هو تعديل وإصلاح القوانين في السودان، والتي لم يدخر وزير العدل جهداً لتجريدها من كل أحكام الإسلام، مدعياً أن ذلك بسبب كفالة الدستور الانتقالي لحقوق كل أتباع الديانات المتساوية دون تمييز، وهذا ما حدا بوزير الشؤون الدينية لدعوة اليهود الذين تركوا السودان إلى العودة.
إن مفهوم الحريات الدينية هو استعمار جديد يتناقض مع عقيدة الإسلام، التي هي وجهة نظر المسلمين في الحياة، وهي أساس الدولة، وأساس الدستور، وسائر القوانين، وأساس كل ما انبثق عنها من أحكام، أو بني عليها من أفكار. فهي قيادة فكرية وهي قاعدة فكرية، وهي عقيدة سياسية، حيث فيها أحكام البيوع والإجارة والوكالات والكفالات، والملكية والزواج والشركات والإرث، كما فيها أحكام تتعلق ببيان كيفية تنفيذ أحكام رعاية شؤون الدنيا كأحكام إقامة أمير للجماعة وأحكام طريقة نصب الأمير، وطاعته ومحاسبته، وكأحكام الجهاد والصلح والسلم والهدن وكأحكام العقوبات وغيرها، وهي عقيدة لا تنفصل عن النضال والقتال في حمل دعوتها وحمايتها وقيامها في سلطان، وحماية السلطان لها، وبقائه قائماً عليها وعلى تنفيذها، ومحاسبته إن قصّر في تطبيقها وتنفيذها، أو في حملها رسالة إلى العالم.
وهي تقتضي إفراد الله وحده بالعبودية والخضوع والتشريع، ونفي العبودية لغيره من طواغيت هذا العصر وعلى رأسهم أمريكا التي تريد أن تعولم دينها الجديد المتمثل في الحريات الدينية عبر أدواتها من أبناء جلدتنا الذين اصطفوا معها في حربها على الإسلام، ولن يردهم إلى رشدهم إلا دولة الإسلام التي ستحاسبهم على ما اقترفوه من جرائم ضد دين الله باستباحتهم البلاد للكفر يحكم ويتحكم بدلا من حمل الإسلام لإنقاذ الكفار، كما تقتضى عقيدة الإسلام إفرادَ الرسول محمد ﷺ بالاتباع من دون الخلق أجمعين، فلا يتبع غيره، ولا يؤخذ عن سواه، فهو المبلغ تشريع ربه، ولا يجوز أن يؤخذ تشريع عن سواه من البشر، أو من أديان أو مبادئ، أو مشرعين، بل يجب أن يُفرَد بالاتباع والأخذ عنه. قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾، وقال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ﴾، وقال عز وجل: ﴿فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ﴾، وقال سبحانه: ﴿فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾.
وتقتضي وجوب تطبيق الإسلام تطبيقاً كامـلاً شـامـلاً دفعة واحدة، وتحرم تطبيق جزء منه، وترك جـزء آخـر، كما تحرم التدرج في تطبيقه، فالمسلمون مأمورون بأن يطبقوا جميع ما أنـزل الله على رسـوله بعد نزول قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإسلام دِيناً﴾، دون تفريق بين حكم وحكم، فجميع أحكام الله سواء في وجوب التطبيق، لذلك قاتل أبو بكر والصحابة معه مانعي الزكاة لأنهم امتنعوا عن تطبيق حكم واحد فقط. وقد توعّد الله من يفرق بين حكم وحكم بالخزي في الدنيا والعذاب الشديد في الآخرة، حيث قال سبحانه: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَٰلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾.
رأيك في الموضوع