كثيرة هي الشعارات الإسلامية التي رفعتها الأحزاب والتكتلات الإسلامية التي جاء بها المحتل الأمريكي لحكم العراق؛ فالدعوة للعدالة والمساواة، وتحقيق الأمن والأمان والاستقرار، وشعار الإسلام هو الحل، وبناء العراق الجديد على أساس المواطنة، والتي من خلالها كسبت التعاطف الشعبي، فكانت في مقدمة الأحزاب العلمانية والشيوعية في جميع الانتخابات التي جرت في البلد، وكانت لها معظم المناصب السيادية والكتل الكبرى في جميع البرلمانات، إلا أنها عندما وصلت إلى الحُكم فشلت في تحقيق هذه الشعارات وارتكبت كل ما يخالف الإسلام من الظلم والسرقة والفساد السياسي والأخلاقي والإداري والمالي.
فبعد سنوات قليلة من تسلمهم لحكم العراق، ظهرت بوادر فسادهم من خلال تنافسهم وتقاسهم الوزارات والمناصب التي تدر عليهم الأموال وفق محاصصة طائفية بغيضة، فهم نظروا للحكم كمكسب وليس كقيادة وتكليف ومسؤولية، واندفعوا نحو الحكم كما تندفع عصابة من السارقين نحو أحد البنوك لنهبه وسرقة ما فيه من أموال، ورغم كون الإسلام كان هو الشعار الأوسع لهذه الأحزاب إلا أن الأسس المذهبية والطائفية كانت ولا زالت هي محرك إنتاج السياسات التي اعتمدتها في إدارة الدولة خاصة بعد سقوط نظام البعث.
إن الفساد في ظل هذه الأحزاب التي استغلت الإسلام لكسب تعاطف الناس معها لم يعد ظواهر متفرقة يمارسها هذا الموظف الكبير، أو ذاك المصرفي أو التاجر أو القاضي، بل أصبح الفساد المالي والإداري، ومنذ احتلال أمريكا للعراق عام 2003م، والحاكم المستبد بأمره بول بريمر وبأوامر من إدارة جورج دبليو بوش أولاً، ومنذ أن سَلَّمت سلطة الاحتلال الدولة العراقية بسلطاتها الثلاث للأحزاب "الإسلامية" السياسية العراقية ومن تعاون معها ثانياً، أصبح نظاماً متكاملاً وفاعلاً وحاكماً في سلطات الدولة الثلاث وأجهزتها المدنية والعسكرية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وفي المجتمع. فمن خلال المحاصصة الطائفية التي شرعنها سيئ الصيت بريمر لإدارة البلد تمت سهولة الوصول إلى المال العام واحتكار الأنشطة الاقتصادية في السوق. فقد نمت الموارد الشخصية للسياسيين بشكل كبير خلال العقد الماضي، فإنّ عدداً كبيراً من النخب السياسية العراقية المنتمية للأحزاب "الإسلامية" من بين الأشخاص الأكثر ثراءً في البلاد. فقد منحت المحاصصة الأحزاب سهولة الوصول إلى موارد الدولة التي اكتسب قادة الأحزاب من خلالها ثرواتهم الشخصية. ويمكن للأطراف التي دخلت الحكومة بالقليل من البنية التحتية أن تملك الآن عدداً كبيراً من المحطات التلفزيونية والمواقع الإلكترونية والصحف وعدداً كبيراً من الموظفين في مؤسساتها وفروع للحزب في مختلف المحافظات.
ويحمي النظام القانوني هذه المنافع السياسية والاقتصادية، حيث يستطيع القادة منع مقاضاتهم في المحاكم. وقد قام عدد كبير من الأحزاب السياسية في الحكومة بتعطيل مؤسسات مكافحة الفساد طوال العقد الماضي، وتسييس عدد كبير من القضايا في المحاكم. علاوةً على ذلك، يتم توزيع المناصب في الهيئات التي من المفترض أن تكون مستقلةً مثل "هيئة النزاهة" على أساس المحاصصة بين الأحزاب السياسية.
هذا فضلا عن المؤسسة الدينية والمرجعيات الإسلامية التي ترعى هذه الأحزاب وتدعمها بقوة في غياب شبه كامل للوعي عند الجماهير مركز القوة للقوى الطائفية؛ الشيعية والسنية على السواء، والمسؤولة الأولى عن الخراب الكبير الذي لحق بالبلد. فهذه المؤسسة الطفيلية أخذت على عاتقها ومنذ اليوم الأوّل للاحتلال تسويق أسوأ ساسة عرفهم العراق طوال تاريخه الحديث، وساهمت من خلال ضغطها في كتابة دستور طائفي سبّب ويسبّب للبلد مشاكل لا حصر لها. هذه المؤسسة اليوم وعلى الرغم من محاولة إظهار براغماتيتها إلا أنها تبقى راعية للفساد كون الأحزاب والمليشيات التي رعتها منذ اليوم الأوّل أصبحت اليوم أخطبوطاً يمدّ أذرعه في كل مرافق الدولة ومؤسساتها. هذه الأحزاب تمتلك أيضا ثروات هائلة تستطيع من خلالها حسم المعارك الانتخابية لصالحها، فهي سرقت خلال السنوات العشر الماضية مئات مليارات الدولارات، والتي تستطيع من خلال غياب مؤسسات الرقابة وضعف القضاء، استخدام جزء منها لشراء أصوات الناخبين. كما أنّها تساهم بعمليات تهريب كبرى نتيجة سيطرتها على المطارات والموانئ والمنافذ الحدودية والتي تدرّ لها أموالا طائلة سنويّا.
هذه الحركات التي استغلت الإسلام للوصول إلى أطماعها ومكاسبها وتحقيق مصالحها بعد أن سُلمت الحكم غيرت وشوهت صورة الإسلام السياسي عند أهله وفي العالم أجمع، وقد كان وصولها للحكم ضمن خطة غربية خبيثة لضرب الإسلام وجعله ديناً كهنوتياً فقط، ولا علاقة له بالسياسة وأنظمة الحياة من اقتصادي واجتماعي وثقافي، وإظهاره بمظهر النظام المتخلف الذي لا يصلح للبشرية في العصر الحديث والتقدم العلمي والتكنولوجي، حتى إذا فشلت هذه النماذج في السياسة وفي الحكم، اعتقد البعض أن السياسة إذا دخلت في الإسلام أفسدته وسلبت منه طابعه الروحي! إلا أن فصل الإسلام عن الحياة وعن أنظمة المجتمع، إنما هو وأدٌ للإسلام وأنظمته وأحكامه، وسحق للأمة وقِيَمها وحضارتها ورسالتها.
بالتالي فإن الحالة التي يعيشها أهل العراق اليوم هي حالة طبيعية عندما يكون نظام الدولة مفروضا من المستعمر، ومخالفا في قوانينه وتشريعاته لعقيدة الأمة وحضارتها، وحين يصبح الحكم وثروات البلد غنيمة بيد وكلاء المستعمر من الحكام ورجال الأعمال، وحين لا يجد الناس من يرعى شؤونهم، عندها يكثر الفقر والظلم والفساد، ولن تفلح القوانين الرادعة ولا الإصلاحات الترقيعية ولا حتى حملات نشر ثقافة مكافحة الفساد التي يدعو إليها بعض الناشطين في القضاء عليه أو استرجاع ثقة الناس، ما دام فساد النظام قائما. فما دام النظام وضعياً ديمقراطياً يطبقه أناس فاسدون نصبهم الكافر المستعمر، فلا يملكون من البلد وقيادته إلا بما تسمح به أمريكا من إطعامهم سرقات جزاء لخياناتهم، ورهنهم البلد ومقدراته الوفيرة بيد الكفرة من الشرق والغرب وإخضاعه للأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد... وغيرها من المؤسسات التي لا يخضع لها بلد إلا أهلكته بشروطها وسياساتها.
وأخيرا إن العلاج الذي لا يخفى على كل ذي لب أن تغيير الأشخاص لا يأتي بخير، وهو ما ذكره العديد من المتظاهرين، بل يجب تبديل هذا النظام الذي أرسى قواعده الكافر المستعمر وإيجاد نظام سياسي منبثق من عقيدة الأمة، منسجم مع هويتها الفكرية والحضارية كما هو حال الدولة الإسلامية التي طبقت الإسلام لأكثر من ثلاثة عشر قرنا، عندها يُقبل الناس على الالتزام بقوانينه طواعية لأنها تحقق لديهم جميع القيم؛ المادية والأخلاقية والروحية والإنسانية، وعندما يجد كل فرد حقه في المال العام عن طريق التوزيع العادل للثروة، لا يجد العاقل مبررا لارتكاب الحرام لكسب المال، وتكون تبعا لذلك حالات الفساد فردية وشاذة يسهل علاجها، ولا تؤثر على أمن المجتمع واستقراره.
بقلم: الأستاذ علي البدري – العراق
رأيك في الموضوع