منذ أن وطأ المحتل الأمريكي العراق وهو في أزمات وصراعات مستمرة، فما إن يخرج من أزمة، حتى يدخل في أزمة أكبر منها، وفي خضم هذه الأحداث والصراعات برز نجم رئيس المخابرات السابق والرئيس الحالي للحكومة العراقية مصطفى الكاظمي الذي ورث أزمات كبيرة من الحكومة السابقة كان أهمها تورطها بسفك دماء المتظاهرين العراقيين الطامحين لتغيير النظام، مع إرث كبير من الفساد المالي والإداري وفشل أمني سمح للمليشيات بالهيمنة على مفاصل الدولة مع تدنٍ في إيراداتها إلى النصف تقريبا بسبب الهبوط الحاد في أسعار النفط. ففي 7/5/2020 منح البرلمان العراقي الثقة لحكومة الكاظمي مع أنه متهم بتقديم المساعدة لأمريكا في عملية اغتيال سليماني والمهندس، حيث هاجمه رجل الدين المتشدد علي الكوراني، المقرب من حزب إيران اللبناني، واتهمه بتنفيذ أجندات أمريكية.
وهكذا تم تنصيب الكاظمي بعد أن فرضته أمريكا على أحزاب السلطة ووافقت إيران على مضض بترشيحه واستطاع تشكيل حكومة عراقية استطاع من خلالها تجاوز عتبة المحاصصة شكلاً لا مضموناً، بظهور وجوه وشخصيات تكنوقراط غير تابعين للأحزاب في الظاهر ولكنهم جزء من نتاجها ومباركتها. بعدها قرر الكاظمي في أولى جلسات حكومته إطلاق سراح جميع المتظاهرين المعتقلين، وتشكيل لجنة لمحاكمة المتورطين في قتل المحتجين، والسعي لتحديد موعد للانتخابات المبكرة. كما بدأ في إجراءات للحد من فوضى السلاح وهيمنة المليشيات المسلحة الموالية لإيران، وهو الأمر الذي يشكك في نجاحه الكثير من العراقيين، حيث إن السلاح السائب ينتشر على نطاق واسع في العراق، خصوصاً أن بعض فصائل الحشد منضوية تحت لواء الجيش العراقي بقرار من البرلمان ومدعومون من أحزاب السلطة.
ومن الخطوات الإصلاحية التّي اتخذها الكاظمي والتي لاقت ترحيبا من الشارع العراقي هي إعادة الفريق عبد الوهاب الساعدي على رأس جهاز مكافحة الإرهاب العراقية وإقالة العشرات من المسؤولين البارزين في وزارات وهيئات مختلفة معظمهم مدعومون من قوى وأحزاب سياسية متنفذة وإخضاع المنافذ البرّية لسُلطة الدولة وإنهاء نفوذ الجماعات المسلحة والأحزاب فيها، والسيطرة على جميع المنافذ الحدودية التي تعتبر الشريان الذي يُغذي الفصائل المسلحة والمليشيات بأموال طائلة، وغيرها من القرارات التي تعمل على تعزيز أمن الدولة ومواردها.
ولكن الملامح الأولى للقرارات التّي تعهّد بها الكاظمي للمجتمع الدولي وللشعب العراقي متشابهة مع تلك الوعود التي قطعها رئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي والتّي لم يتمكّن من إنجازها بسبب رفض أحزاب السلطة وقادة المليشيات لها، إذ إنّ أي عملية إصلاح ستكون عمليا مُوجّهة ضد حزب أو شخصية ما، بعدما باتت كلّ وزارة أو مُؤسسة عامة مجيرة سياسياً، وكأنها دُكّان لهذا الحزب أو المليشيا. خصوصاً في وقت تدر فيه تلك القطاعات التّي تنوي الحكومة إصلاحها مبالغ ضخمة سنوياً على من يمتلك النفوذ فيها، لذلك عجلت ورقة الإصلاح بفتح باب المواجهة بين الكاظمي وبعض القوى السياسية والفصائل المسلحة، تلك التّي تعتقد أنّ أي إصلاح ستكون هي المستهدفة به. ولذلك أثارت هذه القرارات مخاوف حقيقية لدى قادة الأحزاب والمليشيات من احتمال أن تجرَّه، طوعا أو جبرا إلى الاصطفاف مع المتظاهرين، وهذا بالتالي لن يقضي فقط على هيبتهم القيادية وسلطاتهم، بل قد يغري الجماهير الغاضبة بمهاجمة مكاتب أحزابهم ومستودعات سلاحهم وهو ما حصل فعلاً لمقار بعض الأحزاب ومكاتب المليشيات في جنوب العراق، فقادة النظام الإيراني ووكلاؤهم العراقيون لا يريدون أن يواصل الكاظمي سياسة ملاطفة الشارع الشعبي المنتفض، سواء أكان جادا أو فقط راغبا في تهدئة خواطر الجماهير وإنهاء حالة التظاهر والاحتجاج، ولتفادي التصعيد، ومن أجل الالتفاف حول الكاظمي ومنعه من اكتساب شخصية القائد الشعبي المحبوب جماهيريا، ولإبعاده عن المتظاهرين، فقد وجدوا أن إشغاله بالجري وراء مطالب الجماهير التي من الصعوبة تحقيقها بفعل الواقع السياسي والاقتصادي والأمني العراقي المعقد، وبذلك يستطيعون أن يُظهروه للشارع العراقي عاجزا وضعيفا، أو غير صادق في وعوده التي قطعها على نفسه، وأولُها تجريد المليشيات من سلاحها وحصر السلاح بيد الدولة وإحالة كبار الفاسدين إلى القضاء.
الكاظمي الذي شغل منصب رئيس المخابرات يُدرك جيّدا الأوضاع التّي يمرّ بها العراق ويعرف مكمن الأزمة فيه والتّي عصفت بكلّ الوزراء الذّين سبقوه. وقد كشف عن نيته منذ نيله ثقة البرلمان من خلال تصريحاته المُتكرّرة بضرورة فرض السيادة وهيبة الدولة وحصر السلاح بيدها ووقف التدخلات الخارجية التّي تُهدّد استقرار البلد مستندا في ذلك إلى دعم كبير من المجتمع الدولي والولايات المتحدة الأمريكية، وعلى حاضنة شعبية، خصوصا تلك التي تقوم على شريحة الشباب الرافض للمُحاصصة الطائفية والسياسية والمنزعجة من ممارسات المليشيات المسلحة.
أمام هذا الواقع المرير لتنمّر الفصائل والمليشيات ضد الدولة والقانون والشعب واستفحال خطرها، يبدو أن المستقبل القريب سيشهد حراكا شعبيا جديدا كان مؤجلا بسبب وباء كورونا بعد انتظار ورقة إصلاح الكاظمي والوعود التي قطعها على نفسه لتصحيح مسار العملية السياسية واستعادة هيبة الدولة، فإذا ما ثبت فشل عملية الإصلاح وتحقيق مطالب المنتفضين وعدم جدية الكاظمي وأحزاب السلطة في إجراء إصلاحات حقيقية وانتخابات مبكرة نزيهة، فإن صفحة جديدة من التحرك الجماهيري، من المتوقع أن نشهدها قريبا حسب تأكيد قادة التنسيقيات.
وبالتالي حين يكون نظام الدولة مفروضا من المستعمر، كما هو الحال في العراق وسائر البلاد الإسلامية، ومخالفا في قوانينه وتشريعاته لعقيدة الأمة وحضارتها، وحين يصبح الحكم وثروات البلد غنيمة بيد وكلاء المستعمر من الحكام ورجال الأعمال والمليشيات، وحين لا يجد الناس من يرعى شؤونهم، عندها يكثر الفقر والظلم والفساد ولن تفلح القوانين الردعية ولا الحملات العسكرية والتحسيسية لنشر ثقافة مكافحة الفساد التي يدعو إليها عامة الشعب في القضاء عليه أو استرجاع ثقة الناس، ما دام فساد النظام قائما. فالناس لا يصلحهم السّيف بل يصلحهم العدل، والعدل لا يتأتى من القوانين الوضعية التي يضعها البشر حسب أهوائهم بل من القوانين الشرعية التي تضمنها الوحي وتسهر على تطبيقها دولة الخلافة...
رأيك في الموضوع