تضج وسائل الإعلام في هذه الأيام بالحديث عن رفض منظمة التحرير الفلسطينية والسلطة المنبثقة عنها لاتفاقيات التطبيع التي وُقعت بين الإمارات والبحرين وبين كيان يهود، وتُشيع أبواق إعلام المنظمة والسلطة زوبعةً من الأخبار الكاذبة الرافضة للتطبيع، وتُثير الرأي العام بصخب وتضليل ضد عملية التطبيع وكأنّها بريئة من هذه الجريمة المنكرة، مع أنّها هي نفسها قد طبّعت واعترفت بكيان يهود رسمياً منذ العام 1993.
ولو أنعمنا النظر في أعمال منظمة التحرير منذ نشأتها وحتى اليوم لوجدناها لا تختلف عن الإمارات والبحرين، بل لا تختلف عن أي دولة عربية عميلة قامت بجريمة الصلح والتطبيع مع كيان يهود، فهي وليدة هذا النظام العربي الرسمي الفاشل الذي صنعته الدول المستعمرة منذ أربعينات القرن الماضي، فالجامعة العربية التي أسسها وزير الخارجية البريطاني بُعيد الحرب العالمية الثانية، ومنذ مؤتمر أنشاص في مصر، هي التي فرخت هذه الكيانات العربية الهزيلة التابعة، وهي التي حافظت على انفصالها عن بعضها، وهي التي منعت وحدتها، وهي نفسها التي أنشأت منظمة التحرير لتكون الأداة الرئيسية في تصفية القضية الفلسطينية.
لقد تبنّت أمريكا قرار التقسيم الصادر عن مجلس الأمن في العام 1947 والذي قسم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية، وهي بذلك قد تبنت فكرة إخراج كيان فلسطيني منفصل يمثل الفلسطينيين، ويعترف بدولة يهود بما أسموه بــ(أصحاب الأرض) ليكون كيان يهود الرديف قانونياً ومعترفاً به من (أصحاب القضية) أنفسهم.
وفي العام 1957 دعمت أمريكا فكرة فصل الضفة الغربية وقطاع غزة عن مصر والأردن في مؤتمر اشتورة في لبنان، وفي العام 1962 اتصل الرئيس الأمريكي جون كنيدي بالرئيس المصري جمال عبد الناصر مطالباً إيّاه العمل من خلال الجامعة العربية على إخراج جسم سياسي خاص للفلسطينيين يُمثّلهم ويكون المتحدث القانوني باسمهم أمام المجتمع الدولي، ذكر هذا الكلام رئيس مجلس النواب الأردني الأسبق عبد اللطيف عربيات.
وفي العام 1964 انعقد أول مؤتمر فلسطيني في جبل الزيتون بالقدس وخرج بنتائج سياسية خطيرة قُطع فيها البعد الإسلامي عن القضية الفلسطينية، فأصبحت القضية قضية عربية خالصة لا علاقة للمسلمين بها، ولا دخل لغير العرب بها.
ونشأت المنظمة في البداية تحت اسم هيئة التحرير الفلسطينية في العام 1965 وباركتها الجامعة العربية، فكانت وليدة طبيعية لتلك الجامعة، وفي العام 1974 وفي مؤتمر قمة الرباط جاءت مرحلة جديدة فتمّ فيها فصل البعد العربي عن المنظمة وأصبحت هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، وبذلك فصلت القضية الفلسطينية تماماً عن بعديها الإسلامي والعربي لتكون فلسطين بعد ذلك لقمة سائغة ليهود بعد إبعاد الثقل العربي والإسلامي عنها، فأصبح العرب والمسلمون غرباء عنها وليسوا طرفاً فيها، وهو ما أدّى إلى جعل الفلسطينيين الضعفاء هم فقط من يتحمل عبء المواجهة ضدّ دولة يهود لتستفرد بهم وهي المدعومة بالقوى الكبرى، ولتسهل تصفية القضية.
وهكذا تمكن النظام الرسمي العربي من اختزال هذه القضية الإسلامية المصيرية الكبرى إلى قضية صغيرة تخص أهل فلسطين وحدهم، وتتعلق بمسائل إنسانية أكثر من كونها سياسية مثل حق عودة الفلسطينيين أو إعطائهم تعويضات، أو إقامة دويلة مسخ بدون سيادة لهم تحت حراب الاحتلال.
فمنظمة التحرير إذاً هي جزء لا يتجزأ من الجامعة العربية ومن النظام العربي الرسمي الفاشل الذي تولّدت عنه اثنتان وعشرون دولة فاشلة، وهي أيضاً جزء لا يتجزأ من نظامه العاجز الذي فرّط في فلسطين وسلّمها ليهود بمسرحيات قتالية محبوكة، وبتحميل مسؤولية المواجهة على عاتق الفلسطينيين وحدهم، ومن خلال اتفاقيات سلام وتطبيع خيانية مفضوحة.
وعندما تقوم السلطة الفلسطينية وباسم الفلسطينيين بتضييع فلسطين من خلال المفاوضات العبثية لعقود فإنّما تقوم بذلك بتخطيطٍ مسبق ومعروف، وكذلك عندما تحافظ على أمن كيان يهود من خلال التنسيق الأمني، وعندما تقوم بملاحقة المطلوبين الفلسطينيين وتُسلّمهم لكيان يهود، وعندما تقوم قوات أمن السلطة بقمع الحراك الجماهيري الرافض لسياسات الفجور التي تتبعها السلطة التزاماً منها باتفاقية سيداو لنشر الرذيلة في المجتمع الملتزم بأحكام النظام الاجتماعي الإسلامي، وعندما تتسلط على القضاء وتتلاعب بالهيئة القضائية، وعندما تنهب الأموال وتحتكر المشاريع المالية الضخمة لمصلحة الطغمة المتسلّطة على رقاب الناس، وعندما تفعل كل هذه المنكرات وغيرها، فإنّما تقوم بها بوصفها مُنتجاً من منتجات النظام الرسمي العربي، وهي لا تختلف في هيكليتها وبنيتها السياسية عن بنية أي دولة عربية أخرى عميلة وفاسدة.
لذلك كانت هذه المنظمة والمنبثقة عنها حقيقةً هي نتاج طبيعي فاسد لهذا النظام الرسمي العربي الفاسد التابع للغرب الكافر المستعمر سياسياً وثقافياً وعسكرياً واقتصادياً، وكانت بذلك لا تختلف عن الإمارات أو البحرين أو أي نظام حكم عربي فاسد آخر.
ومن هنا كان يجب إدراك أنّ أية محاولة لإصلاحها ستمنى بالفشل الذريع كونها مرتبطة ومنبثقة عن نظام عربي صنيعة أعداء الأمّة.
وما كان ينبغي لحركتي حماس والجهاد الإسلامي الفلسطينيتين بذل الجهود للدخول في إطار هذه المنظمة بحجة إصلاحها وإعادة بنائها، لأن إصلاحها مستحيل كونها من متولدات نظام عربي فاسد وتابع، والواجب تجاهها هو فقط هدمها والتخلص من شرورها وفسادها وآثامها.
رأيك في الموضوع