بعد هدم دولة الخلافة سنة 1924م، وتقسيم تركة الدولة العثمانية بحسب الاتفاقية الاستعمارية بين وزيري الخارجية البريطاني مارك سايكس والفرنسي جورج بيكو، إلى دويلات كرتونية هزيلة، نُصب عليها حكام عملاء، وأقيمت فيها أنظمة حكم وظيفية تستمد أسباب حياتها ومقومات وجودها من دعم الدول الاستعمارية منذ ذلك الحين إلى يومنا هذا.
الفاجعة الكبرى بعد هدم الخلافة كانت ضياع فلسطين، والتي بدت كفتاة يتيمة تخلى عنها ذوو القربى بعد موت والديها، لتجد نفسها على قارعة الطريق ينهش عرضها كل سافل منحط، وقد حصل أن اغتصبت فلسطين على يد يهود بمعاونة الإنجليز الذين كانت لهم الوصاية على فلسطين، فكان وعد بلفور 1917، ومن ثم دعم العصابات اليهودية، وتشجيع الهجرة إلى فلسطين، حتى تمكنوا من إعلان كيانهم منتصف أيار/مايو 1948، حينها لم يستطع الرويبضات من الحكام العرب والمسلمين أن ينكروا علاقتهم بفلسطين، على الأقل أمام شعوبهم المرتبطة بالأرض المباركة ارتباطاً روحياً عميقاً، فهي درة تاج بلادهم ومسرى نبيهم e ومعراجه، فيها المسجد الأقصى أول قبلة وثالث مسجد تشد الرحال إليه، ووصية رسول الله e: «ائتوه فصلوا فيه، فإن لم تأتوه وتصلوا فيه؛ فابعثوا بزيت يُسرج في قناديله»، فانبروا يدافعون عنها في مشهد مسرحي دموي عُرف تاريخياً بحرب 48، تم تسليم معظم فلسطين فيها ليهود، في تلك الأجواء وتحت مبرر الهزيمة، أراد العرب أن يلقوا عبء فلسطين ومصيرها في أحضان أهلها، وبحجة تمثيل أهل فلسطين وتشكيل كيان يجمعهم، أُسس المجلس الوطني الفلسطيني الأول عام 1948 برئاسة الحاج أمين الحسيني، والذي لم ينجح في تجربته، فأعيد تشكيل المجلس مرة أخرى عام 1964 برئاسة أحمد الشقيري، وبتحريض من الرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر، وقرار من الجامعة العربية، لتؤسس بعد ذلك منظمة التحرير، التي أريد لها أن تسير في مخطط التفريط بفلسطين، وتصفية قضيتها، ولأداء الدور رسمياً فقد ألقيت عليها عباءة الشرعية كممثل لأهل فلسطين، فاعترفت الأمم المتحدة في شباط/فبراير 1974 بالمنظمة، وتبعتها في ذلك الجامعة العربية في مؤتمر الرباط تشرين الأول/أكتوبر 1974، باعتبار المنظمة الممثل الشرعي والوحيد لأهل فلسطين.
وقد جاء خطاب ياسر عرفات في الأمم المتحدة في 13 تشرين الثاني/نوفمبر 1974 واضحاً في إنهاء قضية فلسطين، وتصفيتها بدعوى إحلال السلام، فقد ختم خطابه بعبارته المشهورة "جئت حاملاً غصن الزيتون في يد، وفي الأخرى بندقية الثائر، فلا تسقطوا غصن الزيتون من يدي.. الحرب بدأت من فلسطين، ومن فلسطين سيولد السلام".
في البداية طُرح المشروع بعنوان "حل الدولة الواحدة" - البريطاني - الذي تبناه عرفات، وتبنته المنظمة، وأعلن عنه في خطابه في الأمم المتحدة، وبعد تحولات دراماتيكية في المنطقة، وظروف أحاطت بالمنظمة، جاء مؤتمر المجلس الوطني في الجزائر في 15 تشرين الثاني/نوفمبر 1988، أُعلن فيه عن قيام دولة فلسطين على حدود 67، وعاصمتها "القدس الشرقية"، ليكشف عن حل قضية فلسطين بنسخته الأمريكية تحت عنوان "حل الدولتين"، والذي على أساسه عُقدت اتفاقية أوسلو المشؤومة بين المنظمة وكيان يهود، فاعترفت المنظمة بكيان يهود، وحقه في الوجود على أكثر من 80% من أرض فلسطين، ومُنحت السلطة حق إدارة بعض المناطق في الضفة وقطاع غزة، تتقاسمها مع يهود فيما يتعلق بمناطق وجود المستوطنات، والتي تكاد تسيطر على أكثر من نصف الضفة الغربية تقريباً، ولتمارس السلطة دور الحارس الأمين لأمن يهود، ومنع أي تهديد لوجودهم، وتم بناء أجهزتها الأمنية حسب عقيدة التنسيق الأمني المقدس، لمحاربة أي تحرك ضد كيان يهود، فحُورب المجاهدون بالقتل حيناً، والاعتقال أحياناً، ونُزعت أسلحتهم، وفُككَت تجمعاتهم، وكل يوم نرصد تحركات ومساعي للسلطة تكشف عن عداوتها للإسلام، ومحاولات سلخ أبناء فلسطين وبناتها عن دينهم، ونشر للرذيلة بينهم، عبر تشويه المناهج التعليمية، وحشوها بسموم تقتل القيم، والمبادئ والأخلاق، وتنظيم الحفلات الراقصة المختلطة، وعروض الأزياء، وعقد المباريات الرياضية النسائية... ومما يؤكد عداوتها للإسلام، وانسلاخها عن الأمة، واصطفافها في صف الأعداء منعها الشهر الماضي لمسيرات الخلافة التي نظمها حزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين في جنين، ورام الله، إحياءً لذكرى هدم الخلافة، واعتقال العديد من شباب الحزب، في إطار محاربة أي تحرك لإفشال مساعيها للتفريط بالقضية وتصفيتها، ومنع أي صوت يستنهض الأمة وجيوشها لتحرير فلسطين.
بعد الحديث عن الخطة الأمريكية الجديدة للحل، أو ربما إعادة صياغة لما سبق من حلول ومبادرات تحت مسمى "صفقة القرن"، بدت السلطة وكأنها ترفض تلك الخطة وتعمل على منعها، ما أوهم البعض بأن السلطة وأزلامها يخوضون حالة نضال، ومعركة تحرر، بينما الأمر لا يعدو في حقيقته اختلافا على التفاصيل، قائماً على صراع المصالح والأجندات الأوروبي - الأمريكي، فالمنظمة ومنها السلطة، وعلى رأسها محمود عباس ليست حريصة على فلسطين أو ما تبقى منها، وليست غيورة على القدس ومسجدها الأقصى، لا نقول ذلك جزافاً وافتراءً، بل هو قراءة موضوعية في مسار المنظمة وتحركاتها، فالمنظمة أُسست عام 1964 تحت شعار تحرير فلسطين، وفلسطين المحتلة آنذاك هي ما احتل سنة 1948، ولكن المنظمة حملت مشروع التحرير - إن صدقت - لما احتل في حزيران/يونيو1967، أي أنها أسقطت فلسطين 48 من حساباتها، وأكدت ذلك عبر قرار المجلس الوطني في الجزائر بالاستقلال سنة 1988 واعتبار فلسطين هي فلسطين 67 فقط والجزء الشرقي منالقدس فقط، وعبر الاعتراف المتبادل مع يهود ضمن اتفاقية أوسلو 1993، وكذلك في قرار المجلس الوطني 1998 بحضور الرئيس الأمريكي بيل كلينتون، بتغيير الميثاق الوطني وإلغاء المواد التي تدعو إلى إزالة كيان يهود.
لقد أثبتت الأيام فشل كل المشاريع الساعية لتصفية القضية، وأثبتت بطلان شرعية كل الكيانات والهيئات والشخصيات المنخرطة في تلك المشاريع، وفي مقدمة هؤلاء جميعاً منظمة التحرير، التي أريد لها أن تكون كياناً جامعاً لأهل فلسطين لتمرير الخيانة والتنازل باسمهم، ولكن العجيب والمستغرب بعد أن باتت المنظمة ومجلسها الوطني في حكم الأموات، وبدل إعلان البراءة من تلك المؤسسات المتهاوية والمتهالكة، ووقف اختطافهم لقضية فلسطين على مدار أكثر من نصف قرن، شهدنا تنافساً كبيراً، ومساعي جدية لحركة حماس وحركة الجهاد (الإسلاميتين) للمشاركة في بناء المجلس الوطني ومنظمته من جديد، وإعادة ترميمهما، ومدهما بأسباب الحياة، وهو ما يثير تساؤلات كثيرة وكبيرة حول جدية تلك الحركات والفصائل في تحرير فلسطين، خاصة بعد إعلان تلك الحركات توافقها مع برنامج منظمة التحرير، في المطالبة بحل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية على حدود 67!!
نحن ندرك تماماً عدم قدرة تلك الحركات على تحرير فلسطين، وإزالة كيان يهود، وهم أيضاً يدركون ذلك، ولكننا ندرك أيضاً أن تلك الحركات بما تحمله من شعار الإسلام العظيم، وبما تملكه من زخم جماهيري، يمكنها أن توقف حالة الانحدار والانهيار التي كرستها منظمة التحرير، ويمكنها أيضاً أن تكون محركاً أساسياً وقوياً لاستعادة قضية فلسطين لهويتها الإسلامية، وشحذ همة الأمة، واستنهاض عزيمتها واستنفار جيوشها لتحرير فلسطين ﴿وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ﴾.
بقلم: الأستاذ خالد سعيد
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين
رأيك في الموضوع