منذ الاحتلال الأمريكي الغاشم للعراق عام 2003، وبعد مرور 15 عاما مثقلة بأنواع الكوارث جعلت منه بلدا غريبا عن أهله، تلاشت فيه فرص الحياة الكريمة، وتعاقب على الحكم فيه مرتزقة قدموا برفقة المحتل الكافر، من فاقدي النخوة والشجاعة، الجهلة - جملة وتفصيلا - بأمور الإدارة والسياسة، ممن أعمى أبصارهم اللهاث وراء المناصب ونهب المال العام، حتى غدا من أوائل الدول الفاشلة بامتياز..!
وبعد القضاء على مليشيات تنظيم الدولة الذين شوهوا صورة الخلافة الحقة، وأزهقوا الأرواح، تاركين ديار أهل السنة قفرا لا تصلح للعيش، ما حقق أهداف الكفار بدقة وإتقان قل نظيرهما.. بعد ذلك كله، خرجت علينا وجوه كالحة وأبواق ناعقة تدعو لإخراج القوات الأجنبية، وبضمنها القوات الأمريكية من أراضي العراق..! متوعدة كل من يبقى منهم بعد تطهير البلاد من دنس (الإرهاب)، لأن تلك القوات - والحالة هذه - ستعد قوات احتلال..! ولا سبيل لذلك غير البندقية..! وقد اضطلع بهذه المهمة قادة المليشيات إيرانية الهوى، طائفية التوجه بإسناد من الكتل والأحزاب الشيعية الممسكة بزمام الحكم في العراق، ويا ليتهم صدقوا.
فكان اجتماع البرلمان العراقي، وتصويت أعضائه على قرار يطالب الحكومة بتحديد جدول زمني لانسحاب القوات الأجنبية من العراق، وكان النائب عن الائتلاف الحاكم هشام السهيل قد صرح بقوله: إن "الأمر عائد للحكومة لتقرر كم من الوقت تحتاج (القوات الأجنبية لانسحابها من العراق)؛ سنة واحدة أو سنتين". (الخليج أونلاين)... الأمر الذي أوقع رئيس الوزراء العبادي بين مطرقة الأمريكان وسندان المليشيات المستقوية بعديدها الذي جاوز الألوف، وسلاحها الذي يضاهي سلاح الجيش فضلا عن دعم إيران لهم. فما كان من الحكومة إلا أن سارع ناطقها سعد الحديثي خلال ساعات من قرار البرلمان ذاك إلى القول: "إنه من حق البرلمان المطالبة بإخراج القوات الأجنبية، لكن الحكومة لا تزال بحاجة لمساعدة تلك القوات الأجنبية للتدريب، ومكافحة (الإرهاب)" تاركا الباب مفتوحا أمام احتمال تخفيض عددها شرط تحقيق المزيد من الاستقرار. ولا يخفى ما في ذلك من مداهنة لكلا الطرفين - أمريكا والمليشيات - المختلفين ظاهرا المؤتلفين قلبا وقالبا..!
ومما تجدر الإشارة إليه - في هذا المقام - أن القوات الأجنبية الموجودة في العراق بلغت الآلاف منذ العام 2003، وتوزعت جنسياتها بين أمريكا - ولها حصة الأسد - فبريطانيا وفرنسا وألمانيا وروسيا وإيران وتركيا وهولندا وإيطاليا والنرويج والسويد والدنمارك... وذكر من مهامها التدريب وتأهيل القوات وتقديم الدعم اللوجستي وتوفير الغطاء الجوي للقوات العراقية وحماية المقرات الاستراتيجية. (المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاقتصادية والسياسية الاستراتيجية). أما عدد القوات الأمريكية الموجودة الآن فقد تفاوتت تقديرات المسؤولين لها بين خمسة آلاف و262 عسكريا، وعشرة آلاف على لسان العبادي، و20 ألفا بتقدير حسن سالم رئيس كتلة (صادقون) النيابية، موزعين على 8 قواعد في مختلف مناطق البلاد، كاشفا عن مساع أمريكية لبناء "أكبر" قاعدة عسكرية لهم في شمال العراق، وأن رئيس الوزراء العبادي غير قادر على إخراجهم. (وكالات أنباء).
بعد هذا، فلسائل أن يسأل: ما حقيقة المطالبات بإخراج قوات الاحتلال؟ وما مصداقيتها بعد عقد ونصف من الزمن الحالك في ظل الاحتلال؟ وردُّنا الأكيد الراسخ على هاتيك التساؤلات أن تلك المطالبات لا تعدو كونها مزايدات رخيصة لا يلقي لها بالا من عايش مدعي الحرص على الأوطان، فلدينا براهين قاطعة وحقائق ساطعة، نذكر منها:
(1) إن أمريكا زعيمة الإرهاب العالمي لم تزل هي هي محتلة معتدية تجاهر بالكره والكيد للإسلام والمسلمين جهارا نهارا، فما الذي تغير حتى تطالب هذه المليشيات بإخراجها، وهي التي ما اشتد عودها، ولا قويت شوكتها إلا في ظل هذا الكافر المحتل الذي هيأ الأجواء لها، وأوكل مهام تدريبها وتمويلها لإيران المعين الأكبر لأمريكا؟! ثم ألم تقاتل تلك المليشيات تحت حماية طائرات (الشيطان الأكبر)، لطرد تنظيم الدولة خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة؟ ومن أين سلاحها وعتادها؟ فهل بعد هذا من كلام؟
(2) لو كان أدعياء التحرير والسيادة المنزوعة صادقين فلماذا يرضون بمشاريع المحتل التي تكرس وجوده، وتحقق برامجه التدميرية كمشروع اللامركزية في المحافظات، بدعم من المحتل نفسه؛ فقد خصصت مبلغ 160 مليار دولار لتنفيذه خلال خمسة أعوام؟! ومن قبله دستورها المعوج الذي هيأ لتفكيك العراق على أسس عرقية ومذهبية سيذهب به إلى المجهول عبر مكائد الفدرالية والإقليمية وتوزيع صلاحيات الحكومة المركزية على المحافظات وتشجيعها على الانسلاخ عنه..!
(3) إن توقيت التصويت على قرار البرلمان في فترة تسبق الانتخابات القادمة ينبئ عن مكنون أنفسهم، ويهدف إلى توجيه رسالة من الأحزاب الموالية لإيران بأنهم لا يريدون بقاء القوات الأمريكية في العراق إلى الأبد..! وهم بذلك يحققون هدفين: تسليط الضغط على حكومة العبادي لطرد القوات الأجنبية - مع علمهم أنها أضعف من أن تقوم بفعل كهذا -، والمبادرة لنيل مكاسب سياسية تسبق الانتخابات!
بقي أن نعرج - قبل الختام - على موقف المحتل الأمريكي من دعوات إخراج قواته.. فقد أكد المتحدث الرسمي لوزارة الدفاع الأمريكية إيريك باهون الاثنين 5 شباط/فبراير، عدم نيتها سحب قواتها من العراق قريبا، مضيفا أن اتفاقا أمريكيا عراقيا يقضي بتحويل مهام تلك القوات لتدريب وحدات الجيش العراقي ورفع جهوزيته لمحاربة (الإرهاب).. الأمر الذي أكده ضابط عراقي برتبة جنرال - في قيادة العمليات المشتركة، وأن تلك القوات ستشارك في جهود إعادة الإعمار والاستقرار للمدن المحررة، كما أضاف "أن الوضع العراقي ما زال هشا، ولا يمكن المطالبة بمغادرة القوات الأمريكية بشكل خاص، والتحالف الدولي بشكل عام. (السومرية نيوز والحرة عراق، والعربي الجديد).
ولا بد من القول إن أمريكا صاحبة التاريخ الأسود، لا يخيفها غير الأصوات فالسواعد الصادقة المجاهدة..! أما أولئك (الصغار) الباحثون عن الفتات وما ترميه لهم من وسخ المال الحرام، فلأمريكا أكثر من وسيلة لإسكاتهم. وإننا لمنتظرون تحقيق وعد الله عز وجل بالنصر والتمكين لأمة الإسلام، وقيام دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، لاستئناف الحياة الإسلامية الطيبة ونشر الأمن والطمأنينة، وتشييد صروح العدل عبر تطبيق أحكام الشرع الحنيف في الداخل، وحمل الإسلام إلى العالم أجمع بالدعوة والجهاد ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
بقلم: الأستاذ عبد الرحمن الواثق
رأيك في الموضوع