لم يعرف المسلمون (الفدرالية) أو (حق تقرير المصير) المفضي إلى تقطيع أوصال البلدان الموحدة على أسس عرقية أو مذهبية، نعم لم يعرفوا ذلك يوم كانت دولة الإسلام تتسنم مقعد الدولة الأولى في العالم طوال تاريخها المشرق والمديد، حيث كانت قوانينها ومعالجاتها لحل المشاكل تنبثق من عقيدتها الناصعة التي تقضي بوجوب تحكيم شرع ربها عز وجل، واستبعاد كل ما يمت إلى حظوظ النفس بصلة. وما نراه اليوم من صيحات هنا أو هناك لإثبات حق شعب ما أو مجموعة عرقية في الاستقلال عن بلدها الأم فذلك إنما يحصل بدفع من الكفار، الذين اغتصبوا بلاد المسلمين بعد ضعف دولة الإسلام، وإزالة كيانها السياسي عن الحياة منذ حوالي مائة عام.
وها هو بارزاني رئيس ما يسمى بإقليم كردستان العراق، نادى منذ زمن بضرورة تقرير حق شعبه (المزعوم) بأن يكون لهم دولة كما لغيرهم من شعوب الأرض، وظل مصرا على موقفه ذاك، فدعا لإجراء الاستفتاء الشعبي ليكون أساسا لمشروعه الخبيث، الذي ما يلبث أن يكون كيانا مسخا ككيان يهود في فلسطين الأسيرة. وقد عورض مشروعه معارضة شديدة على الصعيدين الدولي والإقليمي، في مقدمتهم أمريكا التي رفضت الاستفتاء من أول يوم أعلن فيه بارزاني عزمه على إجرائه، فردت عليه بواسطة مبعوثها بيرت ماكغورك: "أن إجراء الاستفتاء في الوقت الراهن سيؤدي إلى زعزعة الاستقرار في المنطقة" (أ ف ب 6/8/2017)، ثم أبلغه - لاحقا - وزير خارجيتها ريكس تيلرسون يوم 11/8/2017 في اتصال هاتفي رغبة واشنطن في تأجيل الاستفتاء، هذا عن الموقف الدولي.
أما الموقف الإقليمي المتمثل في عملاء أمريكا تركيا وإيران وسوريا فقد هُرعوا على آثارها إلى رفض الاستفتاء الذي يشكل ضربة موجعة لهم بسبب تجمعات سكانية كردية تتوزع في أراضيهم ترقب ما يجري في كردستان العراق، ما يزيد الأمر صعوبة في ظرف غير مناسب وهم يكافحون (سرطان تنظيم الدولة) الذي استشرى في المنطقة والعالم، فضلا عن استعصاء الثورة السورية على قوى الشر مجتمعة، الذين يحولون دون سقوط جزار الشام، وسيترتب عليه اختلاط الأوراق، وتحركات تخرج عن السيطرة لا سيما المنطقة الكردية، ما يُلحق بهم ضررا ليس معنويا وسياسيا فحسب بل ماديا. وأما موقف العراق - أو حكومته الاتحادية - فهو أحقر من أن يذكر، ذلك أن كل ساسته موافقون على مشروع تقسيم العراق من قبل أن تطأ أقدام المحتلين الأمريكان أرضه! لكنه النفاق السياسي ليظهروا بمظهر الحريص على تراب البلد!!
وعليه فقرار بارزاني إجراء الاستفتاء لإنشاء دولة مستقلة يصب في مصلحة الأعداء وهو جزء من الصراع الدولي على المنطقة وإن أدى إلى فتح باب التمزق والتشرذم، فضلا عن الأضرار السياسية والاقتصادية التي ستعصف بهم وحرمان الأكراد من العيش مع بقية إخوانهم المسلمين في دولة واحدة، وجعل أرض كردستان مرتعا للاستعمار ينهب فيه ثرواتهم التي حباهم الله بها، ويحيل أرضهم إلى مطارات وقواعد عسكرية للدول الطامعة.
وإقليم كردستان أوهن من أن يصمد أمام تلك الدول، وبخاصة أمريكا التي تتحكم في العراق بكامله، لولا وقوف دولة كبرى كبريطانيا التي كانت ولا تزال تدعم استقلال الأكراد، ليس حبا بهم بل تفعل ذلك للتشويش على تحركات أمريكا في المنطقة...! وقد ارتبطت عائلة بارزاني ببريطانيا منذ أواخر الدولة العثمانية، وورث بارزاني هذا الارتباط عن والده "ملا مصطفى البارزاني". فالعائلة عريقة في ارتباطها ببريطانيا التي كان موقفها مؤيدا لقرار الاستفتاء. فقد اجتمع بارزاني مع السفير البريطاني في العراق فرانك بيكر يوم 24/8/2017 ليبدي دعم بريطانيا له، حيث أبدى تفهم بلاده لحقوق شعب كردستان، وأطلع بارزاني على الموقف البريطاني من إجراء الاستفتاء". (صحيفة روداو الكردية). ومعنى التفهم في اللغة الدبلوماسية هو التأييد ومعنى إطلاعه على الموقف البريطاني من دون ذكر شيء هو التأييد أيضا، أي أن الموقف البريطاني إيجابي من قرار بارزاني بل هو داعم له ويطلب منه الاستمرار رغم المعارضة الأمريكية والدول الموالية لها. وقال أيضا مسؤول العلاقات الخارجية في الإقليم فلاح مصطفى: إن "بريطانيا ليست ضد إجراء الاستفتاء، ولا تعارض التطلعات الكردية"، وكان ذلك بعد اجتماع وزير الدولة البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، أليستر بيرت مع المسؤولين الكرد في أربيل للتباحث حول ملفات عدة. (كردستان 24، 5/9/2017).
وفي المحصلة، فإن استفتاء بارزاني وما رشح عنه من نتائج، وصل إلى طريق مسدود، وسيبقى مطروحا على الطاولة لحين توفر الأجواء المناسبة له، طبقا لحسابات الكافرة المعتدية أمريكا، وأكذوبة المجتمع الدولي الذي يأتمر بأمرها، وعندها سيتسابق أعداء الأمة الإسلامية، ومنهم حكام العراق بمباركة اقتطاع كردستان، كما قطعوا إقليم جنوب السودان، وتيمور الشرقية وأمثالهما، قطع الله أعناقهم.
أما أسباب إهمال ما رشح عن الاستفتاء (المؤامرة) فهي كما يلي:
- مجلس الأمن الدولي، يقرر بالإجماع معارضته للاستفتاء، مجددا تمسكه بسيادة العراق ووحدته وسلامة أراضيه". (العربية).
- إعلان الخارجية الأمريكية، بلسان تيلرسون: أنها لا تعترف بنتائج الاستفتاء "الذي جرى من طرف واحد". مضيفا: أن "التصويت والنتائج يفتقران إلى الشرعية، ونواصل دعمنا عراقا موحدا اتحاديا ديمقراطيا ومزدهرا". (العربية).
- اتفاق وزراء خارجية العراق وإيران وتركيا الذين عارضوا الاستفتاء، على دراسة إجراءات ضد الإقليم في حال استمر قدما في الاستفتاء، بعد اجتماعهم على هامش أعمال الجمعية العمومية في نيويورك. (العربية).
- إصدار المحكمة الاتحادية العليا - أعلى سلطة قضائية في العراق - أمرا بإيقاف الاستفتاء، وإبطال نتائجه، ومؤكدة أن قرار الاستفتاء غير دستوري. (روسيا اليوم).
- مجلس النواب العراقي يرفض بأغلبية أعضائه إجراء الاستفتاء، مخولا رئيس الوزراء العبادي مخاطبة جيران العراق لمقاطعة إقليم كردستان، وعدم شراء النفط منه، والاتفاق مع هذه الدول لتطبيق الأمور الاتحادية بما فيها الحدود والفضاء".
وفي الختام، فإننا نضرع إلى الله القوي العزيز أن يبطل بأس الكافرين، ويجعل تدميرهم في تدبيرهم، ويعجل بنصر عظيم تعلو فيه رايات الحق، في ظل دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة ﴿وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ﴾.
بقلم: عبد الرحمن الواثق – العراق
رأيك في الموضوع