لا يختلف اثنان أنَّ مجموعة الأحزاب والكتل السياسية التي (تعاونت) مع الكافر الأمريكي المحتل، وأنجحت مشروعه التدميري، ومن كل الأطراف عربها وعجَمها، كوفئت بتسليمها مقاليد حكم العراق، لا لترعى شؤون شعبها فتكون عونا للناس، بما تقدمه من خدمات، أو تنفذه من مشروعات اقتصادية وعلمية وعِمرانية مُستغلين ما حبى الله تعالى به هذا البلد من ثروات وخيرات جَمَّة، يعضدُها وُفرة في الأيدي العاملة المنتجة والعقول النيّرة الخلاقة، فتنفتح أمامهم الفرص المواتية، ويزدهر الحال وينسى الناس ما ذاقوه فيما مضى مِن مُرِّ الظروف وشظف العيش.. لا لم يتسنَّمُوا سدة الحكم لشيء من ذلك على الإطلاق، ولكن لإكمال ما شرع به الغزاة المعتدون من مشاريع تفوح منها ريح الحقد والكراهية وزعزعة الأمن وتوقّف الحياة على ما فيها من آمال واسعة، فكان دستورهم الجائر، ومشاريع الأقلمة، ونظم المحاصصة الطائفية والعِرقية، ومفهوم الحكومات المحلية وإشاعة الفوضى وغياب القانون العادل، حتى تحوَّل العراق خلال عقد من الزمان أو يزيد إلى فقر وعوز بعد غنى، وخوف ورعب بعد استقرار، فأصبح بلدا فاشلاً تُضرب به الأمثال لا شبيه له إلا أسوأ بلاد الأرض..!
وإنَّ من أبشع المشاريع التي جاء بها الأمريكان المجرمون - بعد الاحتلال - مشروع التقسيم والتفتيت على أسس خاطئة من عِرق ومذهب وطائفة، ذلك الذي عُرف بمشروع "جو بايدن" نائب العلج الأمريكي أوباما، فصاروا يُلوحون به بين الآونة والأخرى، فمرة بالتصويت عليه في الكونغرس الأمريكي، وثانية في لجنة أو هيئة في وزارة دفاعهم الخبيثة، وثالثة عبر تصريحات هنا وهناك على ألْسنة ساسة وقادة عسكريين، وإعلام أجير يتحسَّسون بها آراء الناس ومشاعرهم، ولتهيئة الأذهان بعد طول تكرار لتقبل بذلك الشر المُسمى: "إقامة الأقاليم" المُفضية إلى زوال العراق من الوجود، وسواه من بلاد المسلمين، لتقطيع أوصال الأمة الإسلامية الواحدة، ولإشغال بعضها ببعض فلا تقوم لها قائمة، وليَدُب اليأس في نفوس أبنائها، فينصرفوا عن العمل الجاد للتغيير والبناء على أساس من شرع الله سبحانه.
وانسجاماً مع تلك المشاريع القذرة، اضطلعت حكومات ما بعد الاحتلال بالسعي الحثيث لتمزيق اللُّحمَة بين أبناء الشعب الواحد، يُعينها مليشيات منفلتة ترعاها الجارة (المُسلِمة) إيران - كما يسمّيها البعض - لا ترعى تلك المجاميع المسلحة حرمة لغير ولِيها (الفقيه) ولا ترى حقاً لأحد سواه في إصدار الأوامر، فاشتعل الخطف والفدى المحرَّمة، والتهديد بالتصفية لحمل الشرفاء على هجر ديارهم، والقتل على الهوية، رافقه قسوة لا نظير لها إلا في جرائم بني صهيون..! فجرَّفوا البساتين العامرة، وقطعوا الأنهار عنها، وفجروا المساجد بيوتَ الله، وفخخوا المنازل وصار الناس بين فكّي كمَّاشة فمن جهة هذه الشراذم، ومن جهة ثانية أزلام تنظيم "الدولة" فباتت ديارهم قفرا لا حياة فيها ولا أمل، ولم يجدوا غير المطالبة بالفدرلة والأقلمة حلاً لأوضاعهم، وذلك بسعي من شياطينهم.. أعني من زعموا أنهم ممثلون لأهلهم (السُّنّة) بسبب تخاذلهم تجاه ما يجري، وتآمُرهم مع شركائهم في الحكم، وصار الناس يقبلون بالتقسيم، فعقد ممثلوهم المؤتمرات وأعقبوها بالتصريح جهاراً نهاراً: أن لا بديل عن إقامة "إقليم سُنِّيّ"، وهكذا طلع علينا قادة الجيش ومن يتولى مهام الأمن بحل وصفوه بالأمثل الذي سيُغني عن نقاط السيطرة العسكرية، والجدران الإسمنتية التي قطَّعتْ أوصال العاصمة بغداد.. ذلك الحل: هو جدار إسمنتي فاصل أشبه شيء بذلك ما اتخذه يهود مع إخوتنا في فلسطين المحتلة.
فأعلنت قيادة عمليات بغداد، الاثنين الماضي (29/1/2016)، المباشرة بتنفيذ ما بات يُعرف الآن "بسور بغداد" يحيط بالعاصمة من جميع الجهات بحجة منع تسلل العناصر المشبوهة والإرهابيين إلى داخل العاصمة، ومؤكدة أن "المشروع يُسهم في تحقيق الأمن في بغداد وفتح الطرق المغلقة، ولا علاقة له بطائفة أو سياسة".(عراق برس).
- وذلك السور سيبلغ طوله 300 كيلومترا فيما سيتم حفر خندق إلى جانبه بعرض (3) أمتار وعمق (مترين)، وستكون له (8) منافذ لحركة الدخولوالخروج من أجل حماية بغداد من أي عمليات اختراق أمنية. (كتابات في 5/2/2016).
- وتشير المعلومات الأولية إلى أن كلفة المشروع ستبلغ حوالي (110) ملايين دولار (نفس المصدر السابق).
- وستكون المرحلة الأولى منه بطول (100) كيلو متر"، تنفذه على مراحل كتيبة من أصل خمس كتائب عسكرية بطول (20) كيلومترا لكل منها. وأن "السور يتضمن حفر خندق بعرض (3) أمتار وعمق (مترين)، مع نصب جدران إسمنتية، وحفر خنادق لمنع تسلل المهاجمين، وإحكام السيطرة على مداخل المدينة، ونصب أبراج مراقبة، بالإضافة إلى كاميرات حديثة.
هذه الأوصاف والتفاصيل الآنفة، جاء ما يناقضها حين أعلِن عن إنشاء السور أول مرة، فقد صرَّح عضو اللجنة الأمنية في مجلس محافظة بغداد (سعد المطلبي): أن سور بغداد هو سور إلكتروني، لا يحتوي على خنادق أو جدران، بل يتضمن تكثيف نقاط التفتيش المعززة بعناصر مدربة وأجهزة حديثة للتأكد من سلامة تسجيل المركبات قانونيا وخلوها من المتفجرات...!؟
ولو دققنا النظر فيما يجري لما وجدنا اتفاقا على شيء من ذلك، إذ إنّ التحالف الوطني (الشيعي) أيد إنشاء المشروع، ولم يرَ فيه أي أهداف سياسية، وهكذا قال رئيس أركان الجيش وكالة الفريق الركن (عثمان الغانمي) وأعضاء آخرون في التحالف المذكور... لكن اتحاد القوى العراقية (السُّنيَّة) رفضه جملة وتفصيلاً وعدُّوه جدار فصل لتطويق العاصمة بغداد وعزلها عن بقية محافظات العراق، وأنه بداية لمخطط خطير يرمي إلى اقتطاع أجزاء من محافظة الأنبار وضمها إلى محافظتي بغداد أو بابل كمقدمة ﻹعادة رسم خارطة العراق على وفق أسس طائفية وعنصرية، ويمهد الطريق لتقسيم البلد وتحويله إلى دويلات صغيرة خدمة ﻷجندات خارجية معروفة. (حسب بيان الاتحاد وفقا لعراق برس في 5/2/ 2016).
ولقد صرَّح (صالح المطلك) رئيس كتلة العربية قبل اجتماع الاتحاد بيوم واحد (4/2/2016) بأن علامات التقسيم للعراق قد بدأت واضحة بحيث لا تخفى حتى على المواطن العادي - يعني به ذلك السور، وأنه عار تاريخي سيلحق كل من يُمرره وأن الأجيال القادمة ستلعنه، ودلل على كلامه بأن هذا ليس السور الوحيد، بل هناك سور آخر يجري تنفيذه في وسط قضاء (الكرمة) التابع لمحافظة الأنبار، وأن الجماهير هناك تستغرب تلك الإجراءات، ونحن - بدورنا - نشير إلى ما يقوم به (بارزاني) وزبانيته من حفر خنادق متعددة في مناطق من الموصل وكركوك وديالى تحت ذرائع قتال تنظيم "الدولة"، وقد اشتكى العرب والتركمان من أهالي تلك المناطق معترضين على حفر الخنادق واعتبروها ترسيماً لحدود إقليم كردستان، وتوطئة لإعلان استقلاله. (الشرقية نيوز).
وعوداً على بدء، فقد أوضحنا بأن حكومات ما بعد الاحتلال الأمريكي البغيض ماضية في تنفيذ مشاريع أسيادها دون خجل أو حرص على مستقبل العراق، ونؤكد للمرة الثانية أن أعضاء الحكومة من ممثلي العرب (السُّنَّة) موافقون على مشروع التقسيم، وتصريحاتهم محفوظة ومُدَونة... لكنها أدوار يؤدي كل منهم ما وُكل إليه. فلا يَعجب أحد مما قاله (المطلك) ومثله عضو لجنة اﻷمن والدفاع البرلمانية (محمد الكربولي)، ولا قيمة لتحذيرهما، بل إن المجتمعين من نواب اتحاد القوى العراقية في مسجد الإمام أبي حنيفة لدراسة الأخطار المحدقة بالبلد - وقد علمنا ما قرروه ببيانهم آنف الذكر - يوافق كلهم أو جلُّهم على التقسيم وإنشاء إقليم (سُنِّيِ)، وإن كان اعتراض هنا أو هناك فبحسب حرصهم على ما سيُقتطع من مُلكهم الموعود لا متَّعهم الله به، ولقد رأينا كيف تآمروا وكذَبوا على شعبهم أيام المجرم (بوش) بشأن اتفاقية (الإطار الاستراتيجي) التي أخفوها سراً وأعلنوا عن سواها بما يُظهِرهم بمظهر الحريص على مقدرات بلده، فأيُّ ثقة بقيت للشعب بأمثالهم.
وأخيراً، فإن أولئك الساسة أذيال الكافر المستعمر ماضون بتنفيذ المخططات اللئيمة مهما بلغت بشاعتها، ومهما اشتد ضررها، ومنها سور بغداد، إلا أن يشاء الله شيئا، فقد استمرؤوا الخيانة ودرجوا عليها فلم يبق لهم قطرة من حياء، وباعوا آخرتهم بعرض من الدنيا قليل، ومكنوا الكافر المعتدي من رقاب شعبهم، فنسأل الله العليَّ القدير أن يُعجل بزوالهم، ويُعجل بنصره الموعود لتعود للأمة كرامتها وعِزها في ظل حاكم رباني مخلص، لا يقول غير الحق والصدق، ويكون سلماً لكل مؤمن حرباً على كل غادر وكافر، ولا يتحقق ذلك إلا في ظل دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة - متَّعنا اللهُ بالنظر إلى رايتها: (راية لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله)، ﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾.
رأيك في الموضوع