قدم أوباما خطابه الأخير عن حالة الاتحاد في الولايات المتحدة يوم 12/1/2016 ولم يفت أوباما في معرض حديثه عن القيم الأمريكية أن ينوه لإنجازه المتعلق بمشروعية زواج المثليين. وعرض أوباما أهم القضايا التي تواجه المجتمع في أمريكا وهي الاقتصاد والأمن، والتغير المناخي، وقيادة أمريكا للعالم بدلا من الهيمنة. وفي الوقت الذي انتقد أوباما من يدعون أن الاقتصاد الأمريكي يتهاوى فقد عاد ليناقض نفسه بقوله أن كثيرا من الوظائف التي أوجدها في أمريكا ليست مستقرة وأن الشركات الأمريكية تفتقر إلى الولاء التقليدي بتهريبها كثيرا من الأعمال إلى خارج أمريكا، وأن مقدرة أمريكا على التنافس في سوق العمل العالمي باتت أقل من ذي قبل بكثير. ولم يمض على خطاب أوباما ومديحه لاقتصاد أمريكا ثلاثة أيام حتى تهاوت أسواق الأسهم بمقدار 3%. ولا يخفى على أي من متابعي الاقتصاد الأمريكي أن قصة تعافيه وتخطيه نقطة الخطر ما هي إلا وهم لا تقل عن وهم الاقتصاد الرأسمالي الأمريكي نفسه. وقد اعترف أوباما بأكبر معضلة في الاقتصاد الرأسمالي وهي سوء توزيع الثروة وإجحافها بحيث تتكدس الأموال في أيدي فئة قليلة تتربع على عرش المجتمع في أمريكا مخلفة جحافل جرارة من الفقراء والمحتاجين. وقال إن هؤلاء الفقراء والذين يتعيشون على كوبونات الطعام في أمريكا ليسوا هم الذين تسببوا بالأزمات المالية، بل إن مؤسسات شارع المال (wall street) هي المسؤولة عن طريق تهربها من دفع الضرائب وإنشاء حسابات مالية خارج أمريكا.واعتبر أوباما أن الخروج من الأزمات المالية والاقتصادية وتحقيق ازدهار أكبر لا بد أن يصحبه تميز في مجال الإبداع العلمي والأبحاث والاختراعات الصناعية. وبالرغم من إدراك أوباما لمشكلة توزيع الثروة المتحيز للأغنياء إلا أنه لم يتطرق إلى أي حل لهذه المعضلة. إذ إن مجرد البحث في حل مثل هذه المشكلة سيؤدي إلى وضع النظام الرأسمالي تحت المجهر والمساءلة، وهذا ما لا يقدر عليه أوباما ومن هم على شاكلته من خدم المعبد الرأسمالي!!
وفي معرض حديثه عن قيادة أمريكا للعالم أشار أوباما إلى أن عزلة أمريكا عن العالم ليست في مصلحة أمريكا، وعلى أمريكا أن لا تختار العزلة على القيادة. وفي الوقت نفسه أشار أوباما إلى أن تولي أمريكا عملية بناء وإعادة بناء الدول ليست هي الحل الأمثل لقيادة العالم في إشارة لما حصل في العراق وأفغانستان. ونفى أوباما أن تكون أمريكا قد أصابها الضعف في مقابل منافسيها أو أعدائها. وقال إن ألد أعداء أمريكا لا يتمثل بإمبراطوريات الشر (كما كان الحال أيام الاتحاد السوفياتي). بل إن شر الأعداء هي الدول المنهارة والتي ليس لها نظام مستقر. وفي حديثه عن القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية قال إن هذه الكيانات لم تمثل في يوم من الأيام تهديدا لوجود أمريكا. ثم بين أن أمريكا وحلفاءها الستين قامت بأكثر من 10,000 غارة موجهة ضد تنظيم الدولة وإمكاناته. وادعى أن أمريكا تساند قوى مختلفة في مواجهة تنظيم الدولة. ولم يبين أوباما سبب تنامي قوة التنظيم بالرغم من تعرضه لآلاف الغارات من أكثر من 60 دولة إضافة إلى روسيا ونظام الأسد! وقد استغل أوباما الوضع الساخن في سوريا ليطلب من الكونغرس تفويض الإدارة الأمريكية باستعمال القوة لكسب الحروب التي تتولى وزرها أمريكا في سوريا والعراق وأفغانستان وباكستان وأمريكا الوسطى وأفريقيا وآسيا.
إن حديث أوباما أمام مجلسي النواب والشيوخ حول القيادة بدل الهيمنة في الوقت الذي يطلب فيه من الكونجرس تفويض إدارته باستعمال القوة ضد حركات موزعة في كل أنحاء العالم ليس لشيء إلا لأن هذه الحركات والثورات تحمل وجهة نظر مخالفة لما تتبناه أمريكا من نظام فاسد وقيم منحلة ونظام اقتصادي جائر. إن كل الحروب التي تخوضها أمريكا هي حروب إخضاع وهيمنة واستعمار. ويتحدث أوباما بكل وقاحة عن القيادة بدل الهيمنة!
أمريكا وعلى رأسها أوباما تعتبر تنظيم الدولة في العراق والشام خطراً عليها. أين هو هذا الخطر؟! هل يتمثل في قتل الأبرياء، وأمريكا هي أكثر من ساهم في قتل الأبرياء؟! ألم تنقذ أمريكا بشار من جرائم حربه خاصة الحرب الكيماوية؟! ألم تفتك أمريكا بمدينة الفلوجة في العراق؟ ألم تنتهك كل حرمة مقدسة في "أبو غريب"؟
أم هل يتمثل خطر تنظيم الدولة في الإعلان عن إقامة دولة الخلافة، بغض النظر عن صحة الادعاء أم عدمه؟ هل الخلافة كنظام حكم يهدد وجود أمريكا؟ أم هل دولة التنظيم تهدد أمريكا؟ وقد قال أوباما نفسه أن القاعدة والتنظيم لا تشكلان تهديدا لأمريكا.
إن أمريكا تعلم تمام العلم أن تنظيم الدولة لا يشكل خطرا عليها، وتعلم أن عملها في سوريا منذ اليوم الأول هو الحفاظ على نظام سوريا الحالي من الانهيار والسقوط في أيدٍ لا تقيم وزنا لنظام أمريكا الدولي. وبالتالي فإن عمل أمريكا في سوريا هو أسوأ أنواع الهيمنة والإخضاع بالقوة والاستعمار. وليس غريبا أن أوباما قد ذكر صراحة (أو قل وقاحة) في خطابه أن أمريكا في مواجهة تحدياتها ستستعمل وبذكاء (بمعنى خبث) كل عنصر من عناصر قوتها. وسوف تعمل دائما سواء منفردة أو مع غيرها للحفاظ على شعبها وعلى حلفائها (أمثال بشار والسيسي وغيرهما). وأكد أوباما على أن أمريكا في مواجهة القضايا الدولية ستعمل على تحريك قوى عالمية لتعمل معها وتستعمل ثقلها. ولعله يشير بذلك إلى استعمال روسيا ومن قبلها إيران لتحفظ لها نظام بشار ولو إلى حين.
وبالرغم من سيطرة قضية سوريا والحفاظ على نظام بشار على حديثه عن السياسة الخارجية، إلا أنه أفصح عن استمرار أمريكا في توجهها نحو آسيا واعتمادها على معاهدة الشراكة عبر الأطلسي والتي تهدف إلى إحاطة الصين بطوق قوي بقيادة أمريكا وتحت جناحها إندونيسيا وماليزيا وأستراليا، حيث قال إن هذه المعاهدة من شأنها أن تشجع سياسات السوق الحر وتحمي العمال والبيئة وأن تحقق قيادة أمريكية في آسيا.
وقد عدد أوباما القضايا التي على أمريكا أن تحافظ على قيادتها مثل التغير المناخي، والذي كانت أمريكا أكبر عائق في توقيع جميع الاتفاقات التي أبرمت بشأنه، والدفاع عن أوكرانيا، والتي خسرت القرم لروسيا على مرأى ومسمع من أمريكا والآن هي موضع مساومة لقاء عمل روسيا في سوريا، ثم ذكر أوباما قضية الفقر في أفريقيا وهو يعلم أن فقر أفريقيا ليس إلا نتيجة استعماره المستمر من قبل أوروبا وأمريكا ونهب ثرواته الهائلة من قبل شركات أمريكا وبنوكها، ثم عرج على مرض الإيدز المستفحل خاصة في أفريقيا وهو يعلم أن الإيدز هو نتاج حضارة منحطة ذات قيم سفلية، وأن علاج الإيدز تسيطر عليه شركات الأدوية الرأسمالية التي يعجز عن تناوله غالبية الناس في الغرب فكيف بفقراء أفريقيا؟؟
إن خطاب أوباما عن حالة الاتحاد يعكس العقلية التي تتعامل بها أمريكا مع العالم. فهي تعتبر العالم كله مصلحة لها، وأن أي تغير في خريطة العالم سياسيا كان أم عسكريا أم اقتصاديا هو شأنها بالدرجة الأولى، وأن عليها استعمال كل أنواع القوة للحفاظ على الخريطة كما تراها هي، وأنها هي التي تخلق المشاكل والأزمات وتفرض الحلول التي تريد، وتظهر للعالم كأنها هي وحدها القادرة على حل الأزمات والمشكلات. وهي تتصرف كأنها رب هذا العالم الذي يجب أن يطاع وأن ينصاع له الأسود والأحمر من الناس وإلا فالويل الويل لمن يعصيها. وتتصرف أمريكا هكذا وهي تتربع على ثروة عالمية هائلة هي التي صنعتها من ورق وأرقام، وصورت للناس أنها ذهب وهي في الحقيقة سراب ورماد. فحضارتها زائفة، وأموالها وهمية، وفكرها ضحل غلفته بغلاف لامع براق سمته ديمقراطية تارة، وليبرالية تارة أخرى، وعلمانية ثالثة، وقيمها أفسد من دم البرغوث تبيح نكاح الرجل للرجل، وتأكل الربا أضعافا مضاعفة، وأواصرها أوهن من خيط العنكبوت. وحجبت كل ذلك عن الناس بمرايا من زجاج هش. فما هي إلا جولة ميدانية واحدة تظهر فيها دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة حتى تكسر ذاك الزجاج ويظهر للعيان كل ما ستره أوباما وأخفاه أقطاب الكفر وراء الأطلسي ﴿ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم﴾.
رأيك في الموضوع