والحاصل أن هناك نظاماً مالياً جديداً قيد الإعداد، مع دعم بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي لاستراتيجية خطوط المبادلة، والتي كان من الصعب جداً تنفيذها، حسب قول آلان بلايندر، نائب رئيس مجلس إدارة بنك الاحتياطي الفيدرالي الذي يقول "إنه يعتقد شخصياً أن المزيد من خطوط المبادلة فكرة جيدة، ولكن سيكون من الصعب جداً من الناحية السياسية على بنك الاحتياطي الفيدرالي بيع وتسويق فكرة إنشاء خطوط مبادلة مع مجموعة كاملة من بلدان فقيرة. لقد وفّرت جائحة كورونا البيئة الأنسب للمضي قدما بهذه الخطة الاستراتيجية". ولا شك أن تزايد الحديث عن احتمال انهيار الدولار، وتعثر الاقتصاد العالمي، وما قد ينشأ عنه من كوارث مالية يشير إلى جدية سير أمريكا في سياسة خطوط التبادل المالي، التي وصفها نائب رئيس مجلس إدارة بنك الاحتياطي الفيدرالي بأنها جيدة، ولكنها تحتاج إلى الظروف المناسبة لنجاحها.
في مقال "لماذا يرسل بنك الاحتياطي الفيدرالي مليارات الدولارات إلى جميع أنحاء العالم؟" نُشر في The Planet Money في 21 نيسان/أبريل 2020، كتب جريج روزالسكي، وهو مقتطف من النشرة الإخبارية لـPlanet Money، "مع توقف الاقتصاد العالمي، بدأ الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي في إرسال مليارات الدولارات إلى البنوك المركزية في جميع أنحاء العالم. في الشهر الماضي، تم فتح 14 خط مبادلة لدول مثل أستراليا واليابان والمكسيك والنرويج. حيث تتم مبادلة الدولارات، مقابل عملة الدولة الأخرى. كما بدأ بنك الاحتياطي الفيدرالي في السماح لنحو 170 من البنوك المركزية الأجنبية التي تحتفظ بسندات الخزانة الأمريكية بتبادلها مؤقتاً مقابل الدولار". وفي هذا إشارة إلى أن إخراج النظام المالي العالمي الجديد يحتاج إلى الظروف المناسبة لإخراجه، والتي قد تنشأ طبيعيا وقد يتم خلقها وصنعها على بصيرة.
ولعل أهم نتائج جائحة كورونا على السوق المالية هو إيجاد بيئة مناسبة لنشوء نظام مالي عالمي جديد، في أشكال خطوط المبادلة، حيث يمكن لبنك الاحتياطي الفيدرالي إصدار كمية هائلة من تريليونات الدولارات، إذا تمكن من إنشاء خطوط تبادل مع 170 بنكاً مركزياً حول العالم كما يطمح إليه البنك الفيدرالي الأمريكي. وذلك أكثر على الأقل بخمس مرات مما كان قادراً على طباعته باستخدام مقايضة النفط بالدولار، وما إنتاج أكثر من 9 تريليون دولار خلال أقل من سنتين خلال جائحة كوفيد 19 إلا أحد وجوه هذا النظام.
لقد وصل حجم خطوط التبادل التي أنشأتها أمريكا في العام 2009 خلال أزمة الرهن العقاري التي عصفت بالعالم إلى 1.2 تريليون دولار من خلال 7 خطوط تبادل فقط مع بنوك مركزية في أوروبا والصين وأستراليا.
وفي حال تمكن البنك الفيدرالي الأمريكي من إنشاء 170 خط تبادل مع 170 بنكاً مركزياً حول العالم كما يتوقعه جريج روزالسكي وبمعدل 100 مليار دولار لكل بنك (الحد الأدنى لقيمة التبادل التي تم استخدامها منذ عام 2008 تعادل 80 ملياراً بينما الحد الأعلى يعادل 300 مليار دولار)، فإن حجم إنتاج الفيدرالي من الدولارات في العام الواحد في المتوسط قد يزيد على 25 تريليون دولار.
يبين الرسم البياني التالي (رسم 1) حجم التداول بالدولار الناشئ عن بيع النفط بالدولار منذ عام 1970 وحتى عام 2021. ويبلغ مجموع الدولارات التي تم التداول بها خلال نصف قرن تقريبا 57 تريليون دولار، وهو حجم ما أنتجه بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي خلال 50 عاما لتمويل تجارة النفط.
هذه الكمية الهائلة من الدولارات جعلت البنك الفيدرالي يتربع على كم هائل من تريليونات الدولارات. إلا أن أرباب الربا العالمي يرون أن هذه الكمية لم تعد تروي نهمهم وأن سقف إنتاج الدولارات قد وصل إلى الحد الأعلى حيث إن احتياجات العالم من الطاقة وصلت إلى الحد الأعلى الطبيعي لها، ومن ثم بدأت أشكال الطاقة الأخرى تزحف شيئا فشيئا مثل طاقة الرياح والشمس ونواة الذرات (الطاقة النووية) ستجعل من استخدام البترول في إنتاج الطاقة أقل شأنا، خاصة إذا أضيف لذلك التحذيرات المستمرة من تأثير احتراق النفط والغاز على البيئة والتغير المناخي. من هنا كان البحث عن البديل الاستراتيجي لإنتاج نظام مالي جديد يمكّن البنك الفيدرالي من المحافظة على دور الدولار الاستراتيجي في الهيمنة على النظام المالي العالمي، والتمكن من إنتاج كميات أكبر بكثير من الدولارات.
وحسب ما هو متوقع من ترسيخ نظام خطوط التبادل المالية، فسوف يكون بإمكان البنك الفيدرالي إنتاج ما قيمته 25 تريليون دولار سنويا، أي ما يعادل 50% مما تم إنتاجه من دولارات خلال 50 عاما، دون الحاجة إلى النفط كسند طبيعي للدولار. وهذا الكم من الدولارات بالنسبة للبنك الفيدرالي هو الريع الخالص للبنك بغض النظر عن النسب الربوية العائدة منها، والتي من الممكن للبنك الفيدرالي أن يستغني عنها ويزود البنوك المركزية بهذا الكم من الدولارات بدون ربا مطلقا أو بنسبة قليلة جدا كما كان الحال خلال سنوات ما بعد أزمة 2008 وخلال جائحة كورونا. وذلك لأن الفيدرالي يطبع وينتج دولارات بناء على حاجة السوق العالمي للدولار لتمويل مشاريعها وتجارتها وتسيير حياتها اليومية.
ولعل عدم اكتراث أمريكا كثيرا من إعلان روسيا عن نيتها بيع نفطها بالروبل أو بعملات أخرى غير الدولار خلال حرب أوكرانيا، والسماح للسعودية بعقد اتفاقات بيع النفط خارج نطاق الدولار مع الصين مثلا، مرده إلى أن أمريكا قد تعمد إلى عدم الاعتماد على البترول لدعم الدولار بعد أن تتمكن من تشييد وتثبيت النظام الجديد القائم على خطوط مبادلة الدولار بعملات الدول الأخرى على شكل قروض قصيرة الأجل. ومن جهة أخرى ستتمكن أمريكا من استخدام نفوذها لتقليل سعر النفط كما حصل إبان جائحة كورونا، كوسيلة للضغط على اقتصاديات الدول التي تعتمد على النفط بشكل أساسي كروسيا ودول الخليج مثلا.
الحقيقة التي لا بد من إدراكها من وجهة نظر الفيدرالي الأمريكي هي أن سقف إنتاج الدولارات القائم بالدرجة الأكبر على مبيعات النفط العالمية قد وصل إلى حد لم يعد مقبولا لدى بنك الاحتياط الفيدرالي. وأصبح من الضروري العمل على إيجاد نظام مالي عالمي جديد، والابتعاد عن النظام الذي نتج عن الحرب العالمية الثانية والمتمثل بصندوق النقد والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة الدولية.
ظهور الإسلام في النظام العالمي
وبعد، فإن التغيرات السريعة التي باتت تنتاب النظام المالي العالمي وما يترتب عليه من هيمنة سياسية، والتردد بين فراغ في النظام العالمي أحيانا واستقراره أحيانا أخرى، إن هذه التغيرات تجعل من إمكانية عودة النظام الإسلامي ليس فقط للحكم الداخلي بل وإلى المسرح الدولي حقيقة واقعة. فمن ناحية، فإن العالم بأجمعه بات قلقا من استمرار الهيمنة الأمريكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية والذي أذاقه ويلات وشروراً، وكبد البشرية خسائر هائلة في الأرواح والأموال وتسبب بانهيارات مالية واقتصادية هائلة. وبالتالي فإن التطلع نحو نظام عالمي متوازن يعمل على رفاهية البشرية وتحقيق العدل والتوازن، بات مطلبا ملحا لشعوب العالم. وبات العالم يدرك أنه لا مجال لتحقيق هذه الغايات السامية ما دامت أمريكا وحلفاؤها أو أعداؤها المختارون متربعين على العرش العالمي.
ومن ناحية أخرى باتت الأمة الإسلامية تتطلع بكل شغف إلى عودة الإسلام ليحكم حياتهم بدلا من حكام الجور، الذين باعوا مقدراتها مقابل استمرارهم بالحكم.
والأهم من كل هذا وجود جماعة سياسية متجذرة في البلاد الإسلامية تعمل بشكل جاد لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة. وقد خبرت هذه الجماعة السياسة الدولية، وتحركات النظام العالمي، وهي تراقبه بكل دقة وتتتبع التغيرات التي تحصل عليه، وترصد الظروف الداخلية للبلاد الإسلامية، وترصد الرأي العام لدى المسلمين وتعمل على التأثير فيه بشكل حاسم، ومن ثم هي تعمل بشكل مستمر على التأثير على مراكز القوة والنفوذ لتكسبها لصالح نظام الإسلام وتفصلها عن حكام الجور ومن وراءهم من الدول الكبرى.
من هنا فإن ظهور دولة الخلافة وتمكنها بشكل آمن ومستقر، والذي بات وشيكاً، هو العامل الأكثر احتمالية لزعزعة استقرار النظام العالمي من جديد، وهو الأمل الوحيد المتبقي للتحرر الكامل من فظائع وكوارث الهيمنة الحالية لأمريكا وأنظمتها العالمية سواء المالية أو السياسية.
رأيك في الموضوع