قبل عام بالضبط كتبنا من على هذا المنبر "انتهت أعمال منتدى دافوس بعد أن بحثت قضايا وأزمات دولية شائكة مثل الهجرة القسرية وانهيار الدول والأنظمة والصراعات والنزاعات الدولية والبطالة العمالية وأزمة الطعام". مر عام كامل ولم يطرأ حل لأي من القضايا والأزمات التي تم بحثها، فالفقر قد زادت معدلاته، وعامل الأسعار في العالم قد تفاقم، وزاد عدد لاجئي سوريا عن الخمسة ملايين في شتى أنحاء المعمورة. ويجتمع أرباب المال والسياسة اليوم وهم أنفسهم من يقود العالم باتجاه الهاوية والانهيار السريع، وأضافوا للأزمات المستعصية مشاكل جديدة تزيد العالم تهديدا وتودي بحياة الملايين من الناس بين الجوع والمرض والقتل والتعذيب والتشريد. لم يكن منتدى دافوس يوما ما منذ أن تأسس إلا أداة من أدوات السيطرة المالية والحفاظ على مصالح الكبار على حساب المستضعفين والفقراء. فمنذ عام 1971 حيث أسس الاقتصادي اليهودي كلاوس شواب المنتدى، ودافوس لا يعدو كونه ميزان حرارة يقيس مدى خضوع العالم بأسره للمؤسسة المالية التي تتحكم بها كبرى الشركات والبنوك العالمية، إضافة إلى تقديم جرعات المورفين للشعوب المنهكة بالفقر والجوع بانتظار حل سحري ليس له وجود. وليس من قبيل المصادفة أن منتدى دافوس قد نشأ بالتزامن مع إلغاء اتفاقية بريتون وودز من قبل أمريكا والتي حل بموجبها الدولار محل الذهب وأصبح هو معامل السيطرة المالية الأمريكية ومفتاح العولمة الرأسمالية.
ومنتدى 2017 الذي انعقد في سويسرا في الفترة 18-20 كانون الثاني 2017، هو حلقة جديدة في سلسلة الهيمنة الرأسمالية على الاقتصاد والثروات العالمية من خلال أزمات يتصارع فيها الكبار على السيطرة على مقدرات العالم وليس للشعوب الفقيرة فيه أو منه أي حظ.
ومن المؤكد أن مقدرة المؤسسات العالمية المالية على الاستمرار بالتحكم في مقدرات الشعوب بدأت تضعف شيئا فشيئا، وأن فشلا ذريعا بات يتهددها وذلك لأن النظام الاقتصادي الذي تستعمله هذه المؤسسات قد نخره الفساد وبدأت تبرز عوراته في كل ناحية من نواحيه. فقد كتب ستيفن فيدلر في صحيفة وول ستريت جورنال أن النظام الاقتصادي العالمي يترنح بعد التطورات الأخيرة في أوروبا والولايات المتحدة (قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وانتخاب دونالد ترامب رئيسا للولايات المتحدة)، وأن هناك خطرا على مسيرة التكامل الاقتصادي العالمي التي انطلقت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وأوضح أن نظام العولمة الذي تميز بالتدفق الحر للسلع ورؤوس الأموال يواجه الآن اختبارا حرجا، لأنه رغم تعظيمه للثروات فقد فشل في انتشال فئات واسعة من قاع الفقر، وخلق مشاعر لدى قطاعات كبيرة في الغرب بانعدام المساواة وبالاغتراب عن الأنظمة التي لم تحقق لها الرفاه المنشود. كما أظهر مقياس "إيدلمان" السنوي للثقة الذي صدرت نتائجه قبيل بدء اجتماعات دافوس أن غالبية الشعوب ترى أن النظم الاقتصادية والسياسية خذلتها.
ولعل أغرب ما جرى في منتدى دافوس الأخير هو دفاع رئيس الصين شي جين بينغ عن نظام العولمة بقوله "يجب العمل على إنقاذ نظام العولمة". وإنه وإن كان تصريح شي جين بينغ يحتوي نقدا لتصريحات ترامب ضد العولمة، إلا أنه يحتوي أيضا على مفارقة مهمة، كونها تأتي من زعيم دولة لا تزال تدين بالاشتراكية ذات الطابع الصيني الفريد. ما يعني أن العولمة التي جاءت بها الرأسمالية لتخدم مصالحها أصبح من الممكن أن تخدم غيرها، ما جعل خبراء اقتصاديين يحذرون من مخاطر اندلاع حرب تجارية بين بكين وواشنطن. لقد أصبحت الصين بسبب جشع الرأسماليين وبحثهم عن زيادة أرباحهم بشتى الوسائل، أصبحت من أكثر الدول استقطابا لرؤوس الأموال العالمية التي أدت إلى إنشاء مصانع كل شيء وحولت أمريكا وأوروبا إلى سوق عظيم لكل ما يتم إنتاجه في الصين.
إن رؤية ترامب المتمثلة بحرمان الصين من أهم عامل من عوامل قوتها وهي تدفق الأموال عليها للإنتاج ثم من خلال التصدير لمنتجاتها للأسواق الأمريكية والأوروبية ظاهرها قوة لأمريكا وباطنها دمار لمبدئها. فإعادة الأموال والأعمال من الصين لأمريكا من شأنه أن يساعد في استقرار اقتصاد أمريكا ولو جزئيا بعد معاناة دامت أكثر من 10 سنين. ولكن هذا لا يتم دون حدوث هزة مالية اقتصادية عظيمة قد تطيح بالنظام العالمي كما ورد على لسان نائب رئيس وزراء بلجيكا الذي قال إن التغيير في قواعد العولمة شيء مخيف جدا. ثم إن الانقلاب على عمود من أعمدة النظام الرأسمالي من شأنه أن يهدم بنية النظام نفسه، والذي هو سبب قوة أمريكا وأوروبا. ومن هنا فقد جاء تحذير مديرة البنك الدولي كريستينا لاجراد بقولها "من الخطأ الفادح أن ندير أظهرنا للعولمة". كما حذر الاقتصادي الشهير نوريل روبيني بأن الدول الكبرى إن لم تتعاون فيما بينها فسوف تنشأ نزاعات خطيرة في المجالات التجارية والنقدية والمالية".
والحقيقة أن نظام العولمة الرأسمالي قد أوصل العالم إلى أزمة حقيقية. فأموال الشركات عابرة القارات تضاعفت مئات المرات وتمكنت هذه الشركات من تكديس الثروات وجنيها من مختلف أنحاء العالم، وفي الوقت نفسه زاد فقر الشعوب، وزاد إحساسها بالظلم والقهر والذي قد ينفجر في أي لحظة كما حصل في ثورات الدول العربية، ما يهدد بزلزلة النظام الدولي القائم على استغلال الشعوب ونهب ثرواتها. ثم إن هذا النظام قد مكن دولة مثل الصين وهي من خارج معسكر الرأسمالية أن تبلغ من القوة المالية والاقتصادية ما أصبح يشكل خطرا على النظام الغربي الرأسمالي برمته. وليس من المستبعد أن تبرز دول أخرى بسبب العولمة تسبب تحديا للدول المالية الكبرى كالهند والبرازيل وتركيا. وليس من المستبعد أن تتخذ أمريكا خاصة وعلى رأسها إدارة ترامب ومستشاروه إجراءات في غاية الخطورة على السلم والأمن الدوليين ومستقبل النظام الدولي.
ومن هنا فإن العولمة التي اخترعتها أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية قد أوصلت العالم إلى حافة الهاوية. وصدق فيهم قوله تعالى ﴿إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.
رأيك في الموضوع