تمر على العديد منا آيات القرآن الكريم وكأنهم لم يقرأوها لأنهم لا يتدبرون آياته، فمثلا يخاطب الله الأمة المحمدية في كتابه العزيز قائلاً: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنْ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾. أي أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس، وهي خاصية تميزهم عن غيرهم من الأمم، لكنها منوطة بتحقيق أمرين رئيسين مهمين وهما: الأمر بالمعروف وقيادة الناس إلى أعمال الخير، ونهييهم وصرفهم عن أعمال المنكر. فالخيرية فيها موجودة طالما التزمت بمنهج الله سبحانه وتعالى. وكل هذا ينبع من الإيمان القوي الراسخ بالله وبجميع ما أمر بالإيمان به. وكما روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه رأى من الناس دعة في حجة حجها فقرأ هذه الآية، ثم قال: "من سرّه أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها".
وما نراه الآن من حال الأمة الإسلامية هو نتيجة هجرها هذا النهج الرباني، فالأمة الإسلامية ممزقة ومشتتة إلى دويلات متناحرة، لا يحتكمون فيها إلى شريعة الله، بل تُطبق عليهم قوانين الكفر، والمسلمون في ذيل الأمم أذلاء خانعون تُنهب خيراتهم وتصب في جيوب الدول الكافرة. وكما ورد في حديث حذيفة بن اليمان الذي يصف فيه صعود الأمة وهبوطها: «كانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسولَ اللَّهِ ﷺ عَنِ الخَيْرِ، وكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلتُ يا رَسولَ اللَّهِ إنَّا كُنَّا في جَاهِلِيَّةٍ وشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللَّهُ بهذا الخَيْرِ، فَهلْ بَعْدَ هذا الخَيْرِ مِن شَرٍّ؟ قالَ: نَعَمْ قُلت:وهلْ بَعْدَ ذلكَ الشَّرِّ مِن خَيْرٍ؟ قالَ: نَعَمْ، وفيهِ دَخَنٌ قُلتُ: وما دَخَنُهُ؟ قالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بغيرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ منهمْ وتُنْكِرُ قُلتُ: فَهلْ بَعْدَ ذلكَ الخَيْرِ مِن شَرٍّ؟ قالَ: نَعَمْ، دُعَاةٌ إلى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَن أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا قُلتُ: يا رَسولَ اللَّهِ، صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقالَ: هُمْ مِن جِلْدَتِنَا، ويَتَكَلَّمُونَ بأَلْسِنَتِنَا قُلتُ: فَما تَأْمُرُنِي إنْ أَدْرَكَنِي ذلكَ؟ قالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وإمَامَهُمْ، قُلتُ: فإنْ لَمْ يَكُنْ لهمْ جَمَاعَةٌ ولَا إمَامٌ؟ قالَ فَاعْتَزِلْ تِلكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، ولو أَنْ تَعَضَّ بأَصْلِ شَجَرَةٍ، حتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وأَنْتَ علَى ذلك». مما يؤكد لنا أن الأمة الإسلامية تنتكس وتصبح في ويلات وشر إذا خالفت الإسلام، وتنهض وتصبح في رحمة وخير وانتصار حين تتمسك بالإسلام.
ويَقولُ النَّبيُّ ﷺ: «والَّذي نَفْسي بيَدِه لتَأمُرُنَّ بالمعروفِ ولتَنهَوُنَّ عن المنكَرِ، أو لَيُوشِكَنَّ اللهُ أن يبعَثَ عَليكُم عِقاباً مِنه، ثُمَّ تَدْعونَه فلا يَستَجيبُ لكُم».
ومن الآيات الأخرى التي يلتبس في تفسيرها العديد إما سهواً أو عن قصد قوله سبحانه: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ [البقرة: 143].
فقد فسَّرها البعض ومنهم من يسمون علماء ودعاة تفسيرات حديثة مواكبة للواقع الفاسد ونابعة من فقه الهزيمة وثقافة الاستسلام، وقالوا بأن الوسط هو ما بين التطرف والاعتدال، وما بين العلمانية والتدين! فنادوا بالوسطية والدين المعتدل، مما خدع الكثيرين من الناس، متغافلين أن هذه التفسيرات المغلوطة تؤدي إلى وقوع الفتنة وتقسيم الأمة إلى تيارات متنازعة؛ فهذا معتدل وذاك متطرف وذاك إرهابي وذاك مسلم متحضر وذاك رجعي... فتنشأ الخلافات والنزاعات، وتزداد الأمة تشتتا وتمزقا. فالوسطية قاعدة رأسمالية، وليست من الإسلام في شيء.
إن التفسير الصحيح لـ(وَسَطاً) ما قاله الرسول ﷺ «عدلا، أي أخيارا»، ليكونوا شهداء على الناس، والشهادة تقتضي العدالة. فلأنه أراد للمسلمين أن يكونوا شهداء على الناس يوم القيامة أثبت عدالتهم بقوله (وسطاً). ففي هذه الآية الكريمة يقترن معنى الوسط الذي وُصِفت به أمة الإسلام بمعنيين إضافيين هما: شهادة الأمة على الأمم الأخرى، وشهادة الرسول محمد صلى الله عليه وآله وسلم على الأمة الإسلامية. وهذا يتطلب من الأمة الإسلامية أن تتصدر العالم وتقوده كي تلتزم بمعنى (وسطا) لكي تقيم الحجة على الناس.
إذن لا دخل لمعنى الوسط بالتطرف والاعتدال، أو بالتسوية بين المتناقضات، أو بالحل الوسط الذي يقول به الغرب وبعض علماء المسلمين، وإنما علاقته واضحة بالعدل الذي يستلزم الشهادة على الناس، وبالخير الذي يتطلبه حمل الهداية إلى العالم، فالخيرية هي صنو العدل، وهما معاً صفتان مطلوبتان للتبليغ، وللأمر بالمعروف وللنهي عن المنكر رجوعا إلى الآية السابقة: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾، وقوله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾.
وقد بكى رسول الله ﷺ حين سمع ابن مسعود رضي الله عنه يتلو على مسامعه قوله تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيداً﴾ قال: حسبك، والدموع تترقرق من عينيه، وكأنه عليه الصلاة والسلام كان يتوقع ما ستؤول إليه أحوال المسلمين! وما أحدثوه من بعده، وما فرَّطوا في جنب الله، وما أضاعوا من حرمات!! وما تسببوا في إضعاف لحالهم وإفقادهم المكانة المرموقة التي تليق بهم!! وذلك بعد أن أُسقطت دولتهم الحقيقية دولة الخلافة، وتمزقت أقطارهم أشلاء في دويلات هزيلة لا تقوى أن تدفع عن نفسها أية أخطار خارجية، ولا تملك مسوغات نشر الهدى والإسلام إلى العالمين.
لذلك كان أقصر طريق لعودة الأمة الإسلامية إلى تطبيق مفهوم الوسط هو عودتها إلى الحكم بما أنزل الله واستئناف الحياة الإسلامية بإقامة دولة الإسلام الحقيقية دولة الخلافة. عندها تستحق هذه الأمة الكريمة أن توصف بالخيرية وبأمة الوسط، أمة العدل، حاملة الرسالة الربانية الحقة إلى العالمين. وهذا يحتاج إلى حاكم مسلم على رأس دولة إسلامية قوية يرعاها ويقوم على شؤون الناس فيها ويحمل الإسلام رسالة خير وعدل للناس أجمعين، مطبقا حديث رسول الله ﷺ «كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْؤول عَنْ رَعِيَّتِهِ» والذي يعدّ أصل تحمل المسؤولية التي سوف يحاسب عنها الإنسان يوم القيامة.
فيا أيها المسلمون: واليوم ونحن نعيش الذكرى الـ100 لهدم الخلافة، نجدد العزم ونشد المسير بأن نعود فعلا وحقيقة خير أمة أخرجت للناس نقودها نحو الهداية والتوحيد وسيادة العالم.
رأيك في الموضوع