في ظل غياب الرعاية الحقيقية، ومع صيرورة الدولة - أية دولة - دولة حزب أو طائفة أو مذهب ما، يتجمع الناس - بحثاً عن حقوقهم أو سعياً لرفع الظلم الممارس ضدهم - تحت مظلة أطر خارج منظومة الدولة التي يفترض بها أن تكون الإطار الجامع لكل مكونات المجتمع على اختلاف أعراقهم ومذاهبهم وطوائفهم بل حتى على اختلاف عقائدهم.
ويعتبر هذا الواقع مناخاً خصباً لأصحاب الأجندات السياسية الاستعمارية الساعين لاستغلال أية ثغرة لتحقيق مخططاتهم ومصالحهم، لذا تراهم يرفعون رايات الطائفية والمذهبية وحقيقة أفعالهم هي سياسية صرفة بامتياز.
ونظرة خاطفة لواقع بلاد المسلمين اليوم ترينا كيف كان لفكرة الطائفية دورٌ بارزٌ في تفتيتها وتمكين المستعمِرين من حكمها بل واستغلال دماء وتضحيات أبنائها لتصب في صالح أعداء الأمة.
فلقد عمد الاستعمار الذي احتل بلاد المسلمين إلى تذكية وتغذية الروح الطائفية بين المسلمين على قاعدته المشهورة "فرق تسد"، وسعى لتمكين طائفة أو فئة على حساب طوائف وفئات أخرى، ليخلق واقعاً يسهل عليه الإمساك بزمامه، وواقعاً يسهل عليه تفجيره كلما أراد، وواقعاً يسهل عليه إيجاد موطئ قدم له فيه، ونافذة للتدخل في شؤون بلاد المسلمين دقيقها وجليلها.
وفي هذه السنوات العجاف التي نعيش، تعاظم دور الفتن الطائفية وسعت الدول الكبرى الاستعمارية لإثارتها في بلاد المسلمين المستهدفة، التي أعدت لها تلك الدول مخططاً شريراً، لتكون هذه الفتنة حصان طروادة في تنفيذ مخططاتها السياسية التي - بالطبع - تعتبر كوارث بحق الأمة وأبنائها.
يأتي تعاظم الفتن الطائفية في ظل استراتيجية أمريكية تغذيها وتمتطيها لتحقق مصالحها ومخططاتها في المنطقة، ومما يدلّ على تلك الاستراتيجية ما تضمنته توصيات مؤسسة راند عام 2008 في سعي أمريكا لإبقاء هيمنتها على المنطقة "وتزامنا مع هذا تقوم الولايات المتحدة بتمويل الجهود للإبقاء على الصراعات القائمة بين الشيعة والسنَّة".
وكمثال بارز على استغلال الاستعمار وإشعاله لنار الفتنة الطائفية لتحقيق مآربه ومخططاته الجهنمية، ما خلفه الاحتلال الأمريكي للعراق من كوارث مزق فيها البلد وأوجد شرخاً كبيراً بين أهله، وولغ في دماء الناس تحت ستار الطائفية ليوهم الناس أن أسَّ المشكلة هي الاختلاف الطائفي المذهبي وليس الاستعمار وإجرامه ونهبه للخيرات والثروات.
وها هي نار الفتنة التي أشعلت في العراق "سنَّة وشيعة" تنتشر كالنار في الهشيم في العديد من بلاد المسلمين، في اليمن وسوريا والحجاز والكويت والبحرين وغيرها.
والحقيقة أن مبعث الفتنة القائمة مرده إلى استغلال الدول الكبرى وخاصة أمريكا لكيانات نشأت على أنها كيانات طائفية (كإيران)، لخدمة أجنداتها السياسية، فأضفت على تدخلها في المنطقة طابعاً طائفياً، وحقيقته أنه استعماري بالوكالة.
فما تقوم به إيران من دور في المنطقة هو خدمة لمصالح أمريكا، وهي تواري فعلها الشنيع هذا تحت غطاء نصرة المذهب والدفاع عن الحسينيات والعتبات المقدسة، وقل مثل ذلك في تدخل حكام السعودية في اليمن وتذرعهم بذرائع مشابهة وهم يخدمون مصالح أمريكا الاستعمارية في اليمن والمنطقة.
إن الحكام الطائفيين هم أبعد ما يكونوا عن خدمة طوائفهم ومذاهبهم بل هم يستغلونها لصالح تنفيذ أجندات أسيادهم المستعمرين، فهم يقدمون أرواح أتباعهم ومقدرات البلاد والعباد قرباناً على أعتاب واشنطن ولندن وباريس ليحافظوا على كراسي حكمهم ذوات القوائم المعوجة. ولا أدل على ذلك من تركهم جميعاً على اختلاف طوائفهم ومذاهبهم الحكم بالإسلام وحكمهم بالعلمانية وخضوعهم لإملاءات المستعمرين.
وللإبقاء على حالة التضليل هذه يستخدم الاستعمار والحكام ماكينتهم الإعلامية لاستمرار شحن الأجواء وإيغال الصدور من كل طرف لإبقاء الأجواء مشتعلة ولتغييب الوعي والفطنة التي تؤدي لفهم حقيقة ما يحاك ضد الأمة وقضاياها وبالتالي إفشال هذا المخطط الجهنمي.
إن آثار الفتنة الطائفية مدمرة؛ فهي تفرّق الأمة وتستنزف طاقاتها وتحوِّل بوصلتها عن صراعها الحقيقي، فتجعل الأخ عدواً والعدو صديقا.
إن الإسلام قد رفض هذه الفتنة وحذر منها، فالله سبحانه قد سمى عباده تسمية واحدة بقوله ﴿هو سماكم المسلمين﴾، واعتبر كل تفرقة بين المسلمين بناء على المذهب أو العرق أو البلد هو فعل مذموم، وهو من قبيل الجهوية والعصبية المنتنة التي حذر منها الرسول الكريم عليه وآله الصلاة والسلام وأمرنا بنبذها واعتبرها من دعوى الجاهلية.
والإسلام قد نزع فتيل أية فتنة طائفية ممكن أن تنشب بين المسلمين أنفسهم أو بين المسلمين وغيرهم من أهل الأديان الأخرى، وذلك بتطبيق الأحكام الشرعية في ظل دولة الخلافة تطبيقاً عادلاً على جميع الرعايا دون تفريق بين فئات وأخرى، فكل من يخضع لسلطان الدولة الإسلامية له حق الرعاية دون أي انتقاص، كما أن الدولة الإسلامية لا تسمح لوسائل الإعلام فيها بإثارة تلك النعرات الطائفية، ولا تحتوي مناهج التعليم في ظل الخلافة على أية إشارة لتفرقة طائفية، فالدولة في الإسلام هي دولة لكل من يعيش في كنفها تطبق عليه الأحكام الشرعية دون تمييز وتضمن له كامل الحقوق الرعوية دون انتقاص.
إن الإسلام يدعو إلى أن يلتقي المسلمون اليوم على اختلاف مذاهبهم وطوائفهم وأعراقهم على كلمة سواء في ظل دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة التي تحكم المسلمين بشرع الله وتطبق القرآن والسنة وتعالج الخلافات المذهبية وَفْقَ أحكام الشرع، فتقطع أيدي العابثين وتقضي على نفوذ المستعمرين، وتجعل من جيوش المسلمين حرباً على أعدائهم لا سيفاً مسلطاً على رقاب أبنائهم.
فهلاّ تنبه المسلمون لخطر الفتنة الطائفية ووعوا حقيقتها وحقيقة ما يراد من إثارتها، فيفوتوا الفرصة على كل من يتربص بهم الدوائر، فلا يلقوا له السمع ولا ينقادوا خلف أبواق الفتنة عملاء الاستعمار، ويكونوا عباد الله إخواناً ويداً على أعدائهم؟
رأيك في الموضوع