بعد أن أصبحت دولة الخلافة على منهاج النبوة مطلب الأمة الوحيد، التي بقيامها يرضى الله سبحانه وتعالى عن الأمة فينزل عليها النصر والتمكين ويرفع عنها ظلم الظالمين، والتي بها يتم تطبيق أحكام الإسلام العظيم، فيأمن الناس على دمائهم وأموالهم وأعراضهم، وبها تتحرر البلاد والعباد من هيمنة الغرب الكافر الفكرية والسياسية والعسكرية والاقتصادية... بعد أن اتضحت هذه الأمور لدى الأمة، وتأكد عندها بأن الخلافة على منهاج النبوة هي المخلص الوحيد لها مما تعيشه من ظلم وعوز، ظلت كيفية الوصول إلى إقامتها غير واضحة لديها.
إنه لا يكفي أن يكون في الأمة رأي عام يطالب بالخلافة الراشدة على منهاج النبوة، بل لا بد من أن يكون في الأمة حزب مدرك لطريقة إقامتها، وعنده تصور تفصيلي للأحكام الشرعية التي يجب اتباعها لإقامتها، وقد تحقق ذلك وتجسد في حزب التحرير. لكن وجود حزب التحرير الواعي على الأحكام التفصيلية لما قبل إقامة الخلافة ولما بعدها لا يكفي أيضاً لإقامة الخلافة على منهاج النبوة، بل يجب أن تحتضن الأمة الحزب وتعمل معه لهذه الغاية، ويجب أن ينصر الحزبَ أهلُ القوة والمنعة في الأمة؛ حتى يتمكن الحزب من الحكم بما أنزل الله، ومن تشكيل دولة مهابة الجانب، كما فعل رسول اللهe في المدينة المنورة بعد أن نصره الأنصار رضوان الله عليهم.
بعد أن انتفض أبناء الأمة في كثير من بلدان الربيع مطالبين بالتغيير الذي يعيد لهم عزتهم وحقهم المسلوب، ظل واجب نصرة أهل القوة في الأمة للحزب غير متحقق، فلم تتوج تضحيات الأمة بإقامة دولة الخلافة على منهاج النبوة، التي تنصف الأمة وتلبي طموحها، فيرضى الله سبحانه وتعالى عنها. لذلك، فإن الحزب وهو يداوم على طلب النصرة من أهلها، يجب على الأمة أن تتوجه بجماهيرها نحو وزارات الدفاع وقواتها المسلحة وتطالبها بانتزاع السلطة من الحكام العملاء وتسليم السلطة للحزب، فهذا الواجب من الطريقة الشرعية التي يجب التقيد بها دون سواها.
ودليل وجوب طلب النصرة وكونه من الطريقة الشرعية هو مداومة الرسول eعلى طلب النصرة والحماية من أصحاب القوة والمنعة والشرف من القبائل بعد وفاة زوجه خديجة وعمه أبي طالب إلى أن عقد بيعة العقبة الثانية. ذلك أن الرسول e منذ أن بعثه الله رسولًا لم يكن يطلب من الناس إلا أن يؤمنوا به ويصدقوه بأنه نبي مرسل من عند الله، ولم يكن يطلب منهم لا نصرة ولا حماية، وكان يتصل بجميع الناس على حد سواء، وقد بقي سيره في حمل الدعوة على هذا الحال حتى توفيت خديجة رضي الله عنها ومن بعدها عمه أبو طالب. وبموتهما تتابعت المصائب على رسول الله e، ونالت قريش منه من الأذى ما لم تكن تطمع به في حياة أبي طالب، وعندها أخذ رسول الله e يتلمس النصرة والحماية ممن يقدر عليها، بالإضافة إلى الدعوة إلى الإيمان به والتصديق بأنه نبي مرسل. وقد ورد في سيرة ابن هشام: قال ابن إسحاق: "ولما هلك أبو طالب نالت قريش من رسول الله eمن الأذى ما لم تكن تنال منه في حياة عمه أبي طالب، فخرج رسول الله eإلى الطائف يلتمس النصرة من ثقيف والمنعة بهم من قومه، ورجاء أن يقبلوا منه ما جاءهم به من الله عز وجل". ويقول ابن إسحاق عمّا بعد رجوع الرسول e من الطائف وقد صدوه وآذوه: "ثم قدم رسول الله eمكة وقومه أشد ما كانوا عليه من خلافه وفراق دينه، إلا قليلاً مستضعفين ممن آمن به، فكان رسول الله e يعرض نفسه في المواسم إذا كانت على قبائل العرب يدعوهم إلى الله ويخبرهم أنه نبي مرسل ويسألهم أن يصدقوه ويمنعوه حتى يبين لهم ما بعثه الله به". وقد بقي هذا شأن الرسول في سيره بالدعوة، يقصد القبائل ككيانات، ويقصد الرؤساء والسادة والأشراف ممن لهم مكانة، حتى أتاه وفد من أهل المدينة من الأوس والخزرج، بعد أن مكث بينهم مصعب بن عمير سنة وواعدهم العقبة، وعقد معهم بيعة العقبة الثانية التي تقوم على أساس النصرة والحماية، وكانت بيعة الحرب، وبذلك وجد الكيان الذي ينصر رسول الله eورسالته ويحميه، وعندها توقف رسول الله عليه الصلاة والسلام عن طلب النصرة والحماية. وبذلك يكون قيام الرسول eبطلب النصرة والحماية من القبائل من أهل القوة والمنعة، واستمراره على ذلك حتى عقد بيعة العقبة الثانية التي هي بيعة نصرة وحماية وحرب، يدل دلالة واضحة على أن طلب النصرة من الطريقة، وأنها حكم شرعي، وأنها واجبة الاتباع.
أما بالنسبة للعمل المادي، فمن المقطوع به أن الرسول eحين بدأ يطلب النصرة من القبائل، لم يطلب النصرة من أصحابه قط، ولم يجعل منهم مقاتلين، وإنما طلب النصرة من غير أصحابه من أهل القوة، في حين كان من أصحابه أبطال مثل حمزة بن عبد المطلب وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما وغيرهما. فالثابت أن الرسول e حين بدأ يطلب النصرة لم يطلبها من أصحابه، بل ذهب أولاً إلى ثقيف، وطلب منهم أن يسلموا وأن يمنعوه، وصار يذهب إلى القبائل يدعوها إلى الإسلام ويطلب منها المنعة، إلى أن نصره أنصار المدينة المنورة.
إضافة إلى أن القيام بالأعمال المادية يتطلب التدريب والسلاح والتمويل، وكلها بيد الأنظمة البوليسية القائمة في العالم الإسلامي وأسيادها الغربيين، الذين يتحكمون بكل رصاصة يصنعونها، لمن تباع ولمن تمنح... الخ. وبما أن الغرب ومعه عملاؤه في العالم الإسلامي من الحكام هو عدو أي عمل مخلص يفضي إلى إقامة دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، فإنه شديد الحرص على عدم وصول أي سلاح لأية حركة مخلصة، إلا إذا تمكن من مساومتها على غايتها، فيستنزف طاقاتها وطاقات الأمة حتى يتم القضاء عليها، أو حتى تقوم الحركة "بمراجعة" فكرتها وطريقتها، وينتهي بها المطاف إلى أن تصبح جزءًا من النظام الفاسد القائم، أو تعلن عن حل نفسها. لذلك لم تفلح أية حركة مسلحة في تحقيق أي استقلال لها في دولة مستقلة، لا قديماً ولا حديثاً، لا بين الأمة الإسلامية ولا حتى بين الأمم الأخرى، والجيش الإيرلندي مثال على ذلك.
ويجب التنويه إلى أن قتال الأنظمة القائمة في العالم الإسلامي (وهو ليس طريقة شرعية لإقامة الخلافة)، يختلف عن قتال الصائل في بعض البلدان الإسلامية، مثل ما يحصل في سوريا والعراق، فهذا جائز. وعليه فلا يجوز للحزب كحزب القيام بالأعمال المادية، أي غير فكرية، لتسلم الحكم مطلقاً، لا بالأمس ولا اليوم ولا غداً.
وفي الختام فإنا نسأل الله أن يسدد خطانا، وأن يمدنا برَوْح من عنده، وأن يشد أزرنا بملائكته، وبخُلّص المؤمنين، وأن يكرمنا بنصر عزيز مؤزر من عنده، وأن يمكننا من إقامة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، إنه على ما يشاء قدير.
رأيك في الموضوع