لم يكن يوم 14 كانون الثاني/يناير الموافق للذكرى السادسة للثورة في تونس لهذه السنة مميزا أو حتى شبيها بأيام الذكرى التي تلته، حيث كان الحضور الشعبي متواضعا، واقتصرت الفعاليات على تجمعات حزبية اتسم بعضها برفع الشعارات السياسية وأخرى نصبت منصات موسيقية. أما الولايات الأخرى فقد غابت عنها مظاهر الاحتفاء بذكرى الثورة تماما ولم تشهد إلا بعض الاحتجاجات والمسيرات التي عبرت عن غضبها من الأوضاع الإنسانية وغياب الدولة عن إيجاد حلول حقيقية لهم.
فبعد ست سنوات على الثورة التي انطلقت من تونس ومرت عبر مصر وليبيا والشام واليمن ووصل صداها إلى وول ستريت حيث تم رفع نفس الشعار "الشعب يريد إسقاط النظام"، ورغم فرار بن علي وسقوط عائلته وحل حزب التجمع إلا أن الحال لم تتغير كثيرا؛ فظلت نفس السياسات قائمة، بل تعمقت العديد من المظاهر الفاسدة في السلوك السياسي عند الحكام والنخب.
المرحلة التأسيسية والدستور:
شهدت مرحلة ما بعد المخلوع مواصلة أبرز رجاله في إدارة الحكم، ورغم أن الاحتجاجات الشعبية ضدهم لم تهدأ بل تطورت إلى اعتصامات مهمة إلا أنهم ظلوا يغيرون الوجوه، في الوقت الذي انطلقت لجان وهيئات أخرى تضع المراسيم القانونية وتحضر للفترة الانتقالية وصولا إلى انتخابات المجلس التأسيسي، بعد وضع قانون انتخابي يعطي أطرافا سياسية ليست لها شعبية تمثيلا في المجلس، ويمنع الأغلبية من الهيمنة المطلقة، انطلقت جلسات وضع الدستور الجديد بنقاشات كبيرة عن مصادر التشريع وأسسه وتوجهه، خاصة بعد أن مثل حزب النهضة أغلبية في المجلس وهو الذي كان يعرف حينها بتوجهه الإسلامي، عرفت خلالها البلاد تحركات شعبية عدة مطالبة بتطبيق الشريعة وشهد يوم 14 تشرين الأول/أكتوبر 2012 مسيرات من شمال البلاد إلى جنوبها ترفع نفس الشعار.
من جهة أخرى حاولت بعض الأطراف العلمانية لم شملها وقامت ببعض التحركات إلا أنها لم تكن ذات شعبية حقيقية رغم نفخ وسائل الإعلام فيها، ليقف الجدل داخل قبة التأسيسي بعد إعلان رئيس الحركة أن الشريعة لن تضمّن في الدستور والاكتفاء بأن تونس دولة دينها الإسلام ولكن في الوقت نفسه مدنية نظامها ديمقراطي يفصل الدين عن السياسة، ثم تواصل الجدل في نقاط أخرى على غرار تضمين حرية (الضمير)، وعدم تضمين رفض التطبيع مع كيان يهود.
لكن الأبرز في كتابة الدستور الذي وضع النظام السياسي في تونس والهيئات التأسيسية والدستورية، أنه شهد تدخلا أجنبيا كبيرا؛ فالبرنامج الإنمائي للأمم المتحدة لم يغب يوما عن تأطير جلساته ومناقشاته، كما كان حضور خبراء دوليين في القانون الدستوريواضحا جدا ومؤثرا كثيرا، فنوح فيلدمان المعروف بوضع بصماته على دستوري أفغانستان والعراق تم ضبطه وهو يحاور نوابا في أروقة المجلس، ومن جهة أخرى كانت توصيات الخبير ستيفن براير التي وجهها في جلسة مع النواب عبر الأقمار الاصطناعية من جامعة بوسطن والذي شدد على أن تكون الصياغة عامة قابلة لتأويلات عدة.
الاغتيالات السياسية قادت إلى التوافق المزعوم:
الاغتيالات السياسية كان لها شأن كبير في تحريف مسار الثورة فقد استغلتها أطراف لفرض سياساتهم وإدخال البلاد في نسق التوافقات بعد أن استطاعوا أن يجبروا حركة النهضة على التنازل عن الحكم والتنازل حتى عن خياراتها السياسية، ودخلوا في متاهات الحوار السياسي الذي أسس للانتخابات الثانية في الوقت الذي كانت حكومة المهدي جمعة تسير بأجندات التفريط والارتهان للسفارات والمنظمات الدولية الاستعمارية.
الدول والمنظمات الاستعمارية فرضت أجنداتها:
لم تغب تدخلات دول استعمارية أبرزها بريطانيا ثم فرنسا وألمانيا وأمريكا عن التأثير في مسارات الواقع السياسي في تونس واستغلت ضعف الحكومات وتوق السياسيين للحكم الذي أصبحت منهجيته عندهم تقتصر على الاتكال على السفارات، فكان لتلك الدول القدرة على النفاذ المباشر لوزارات السيادة وفرض اتفاقيات عسكرية وأمنية تجعلها تتحكم فيها بدقة، وكانت المنظمات الدولية وخاصة المالية أبرز مؤثر في تشكيل الحكومات ووضع ميزانيات الدولة وفرض الإجراءات المالية، فمبعوثو كريستين لاغارد رئيسة صندوق النقد الدولي كانوا وما زالوا هم الذين يفرضون القروض لسد العجز ومن ثم يضعون شروطا أغلبها لا علاقة له بالناحية المادية كتقنين المثلية وتمرير قانون سيداو.
(الإرهاب) أجندة دولية واستثمار محلي:
لم يكن الواقع السياسي في تونس معزولا عن الواقع الدولي وخاصة الذي تشهده البلدان التي اخترقتها أجندة (الإرهاب)، وقد حاولت النخبة السياسية من خلال الاستعانة بأجهزة الإعلام تحويل الواقع الثوري إلى واقع يناهض (الإرهاب) لا في أصله بل في شكله، إذ حاولت مرارا ربطه بالمساجد والكتاتيب القرآنية وبـ"الإسلام السياسي"، وسعوا إلى ربط كل مطلب بتحكيم الإسلام بصفة (الإرهاب)، إلا أنهم فشلوا في ذلك شعبيا ولكن نجحوا في إخضاع أطراف سياسية وجعلوها تتكلم بالأسلوب نفسه والخطابات السطحية ذاتها، فلا أحد يشير إلى مخططات أمريكا في المنطقة، ولا أحد يتحدث عن أصل الحرب على (الإرهاب) التي أعلنها جورج بوش بعد غزوه للعراق.
حزب التحرير في سياق الثورة والوعي الشعبي:
بعد ست سنوات من الثورة ورغم محاولات المغرضين التي تسعى إلى تشويهه وربطه بالسلفية في بادئ الأمر ثم بتنظيم الدولة، برز حزب التحرير بأعماله الشعبية وشعاراته، وخوضه في القضايا الحقيقية، برز أسلوبه في الخطاب وتميزه عن باقي الطيف السياسي في تونس، أثار الانتباه تارة والاستغراب تارة أخرى، ولكن ظل مع خيارات الحق والحقوق، وخاض صراعاته بمبدئيته ووعيه، ليجعله وعيا يؤثر ويحرك في الشعب العزم على مواصلة الثورة والوصول بها إلى بر الأمان، خاصة مع تواصل انهيار الثقة في المتداولين على الحكم وفي سياساتهم.
بقلم: المهندس محمد ياسين صميدة
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع