لم تكن حكومة يوسف الشاهد استثناء للحكومات السابقة، ولم تكن حكومة إنقاذ أو خروج من الأزمة رغم أنها وسعت في الائتلاف الحكومي لتزيد من دعم الأحزاب والمنظمات التونسية، بل زادت في تعميقها وتأجيج الأوضاع أكثر فأكثر، فتوالت عليها الصدامات والصراعات، وأثيرت تجاهها العديد من القضايا، وشهدت خلالها انهيارا تاريخيا للاقتصاد، حتى إن قيمة الدينار التونسي بلغت هبوطا تاريخيا من حيث القيمة ومن حيث سرعة الانهيار، فضلا عن تزايد الضغوطات الخارجية التي فرضتها دول ومنظمات استعمارية على غرار صندوق النقد الدولي في الوقت الذي ترتفع فيه حدة الصراع الداخلي بين الأطراف السياسية وتصدعها لتنتج مشهدا عفنا بالتسريبات والفضائح، وانكشاف عمل لولبيات المال والسياسة بأسمائها وتشكلاتها.
كل هذا كان كفيلا بأن يتفاقم الغضب الشعبي وتتنامى حدته عند شعب طمح بتغيير الأوضاع بعد ثورة كان أحد عناوينها إسقاط النظام وإحدى غايتها الكرامة، ومع انهيار الثقة والأمل في الطبقة السياسية عامة والحكومة الحالية خاصة، كانت الاحتجاجات الشعبية بمختلف الوسائل بالاعتصامات وإغلاق الطرق الحيوية، والمظاهرات الحاشدة، والإضرابات العامة ووصولا إلى إغلاق المنشآت البترولية التي تستغلها شركات استعمارية.
فقد شهدت في الفترة الأخيرة مناطق عديدة في تونس تحركات كبيرة، انطلقت خاصة مع تحرك شعبي في مدينة الجم التابعة لولاية المهدية على إثر محاولة مستثمر محسوب على حزب نداء تونس فتح نقطة بيع للخمور، الأمر الذي أثار غضب الأهالي وتحركوا ضده، ورغم محاولة السلطة عبر أجهزتها القمعية صدهم، إلا أن عزمهم وإرادتهم كان كفيلا بإجبار الحكومة على الاستجابة لهم وتجنب تطور الأوضاع.
لتتحرك بعد أيام مدن وولايات عدة أبرزها الكاف التي شهدت مظاهرات عدة ومسيرات شارك فيها الكبار والصغار وأعلوا فيها شعارات بلغت المطالبة بإسقاط النظام، ثم انضمت ولاية القيروان وتحركت فيها عدة جهات رفعت نفس الشعارات وزادت في وتيرة الغضب، ووسعت معها في رقعة الاحتجاجات لتصل ولايات أخرى على غرار صفاقس والمهدية وباجة، وتزامنت مع انطلاق اعتصامات في مدينة تطاوين التي كانت لها سابقات مع الحكومة المتعاقبة.
إلا أن الحكومة تعاملت معها في بادئ الأمر بنوع من التجاهل، ففي الوقت الذي نفذ فيه أهالي تطاوين عدة حركات احتجاجية وإضرابا عاما، توجه يوسف الشاهد بصحبة فريقه الحكومي إلى مدينة صفاقس، الأمر الذي زاد في امتعاضهم وغضبهم، وفسرها بعض المحللين بأنها محاولة لإسكات أهالي صفاقس ببعض الوعود والقرارات خشية أن تلتحم الاحتجاجات ببعضها وتزيد في إرباك الحكومة وجعل موقفها أكثر إحراجا.
وهو ما جعلهم يتوجهون لإقامة اعتصام في منطقة الكامور التي تمر عبرها كل ناقلات البترول التابعة للشركات المنتصبة بالجنوب التونسي، اعتصام كان شعاره "الرخ لا" وهو ما يعني باللهجة التونسية لا تراجع ولا مساومة ولا تنازل، شعار سرعان ما تناقلته وسائل التواصل الإلكتروني وانتقل إلى باقي الحركات الاحتجاجية الأخرى، بل أصبح عنوانا تستثمره بعض الأحزاب المعارضة للحكومة.
اعتصام الكامور ظهر بصورة جديدة على مستوى التنظيم، حيث قدم تنسيقية تشرف على الإعلام والمفاوضات، وتنظيم التحركات ومراقبة التحركات خوفا من الاندساسات والاختراقات، وحظي بدعم شعبي واسع.
مما استدعى الحكومة بقيادة الشاهد للتنقل للجهة في يوم أعلنه الأهالي يوم إضراب عام، ورغم محاولاته استمالة الناس وتحضير ما سمي بحزمة القرارات وعددها 62 قرارا، تتضمن مشاريع للتشغيل والتنمية وتحسين الجهة، لم تنطل على وعي شباب أعلن أنه يريد طرد الاستعمار وشركاته، واعتبر أن التفاوض مع حكومة لم تقدم إلا الوعود الزائفة أمراً لا فائدة منه.
تحرُّك تطاوين مثّل سقفاً جديداً في الحراك الشعبي ورفعاً مهماً في سقف مطالب لم يستوعبها مسؤولو الحكومة حتى إن أحد وزراء الحكومة المهدي بن غربية صرح مباشرة وبشكل واضح أن البترول ليس ملكاً لنا وأن موضوع الثروات أكبر من الحكومة، ولم يقدر على مجاراتها أحزاب المعارضة التي تشتغل تحت وصاية السفارات والتعليمات فاستدعى بعضهم نظرية المؤامرة وادّعى خوفه من أن تكون وراء التحركات مخططات دولية، فيما اكتفى آخرون بإعلان دعمهم للحراك ومساندتهم لبعض المطالب التي ترفع شعارات الشفافية ومكافحة الفساد، ولكنها أعادت أملا عند الناس في استكمال المسار الثوري وتصحيحه، فيما يبقى على القيادات السياسية الواعية التي تحمل مشروعا حضاريا أن تزيد في التحامها بالحاضنة الشعبية وتزيدها حصانة فكرية وسياسية.
وقد كان لحزب التحرير الجدارة والأسبقية في وضع أسس وعي عن الاستعمار ووكلائه وقطاعاته الحيوية، فأصبحت الاحتجاجات الشعبية والمطالب تدور حولها بل وتستعمل نفس العناوين بنفس الألفاظ.
بقلم: المهندس محمد ياسين صميدة
رأيك في الموضوع