انتظمت في تونس يومي الخميس والجمعة 17 و18 تشرين الثاني/نوفمبر 2016 جلسات استماع لضحايا الاستبداد لسرد الانتهاكات الجسيمة والتعذيب الذي تعرضوا له في جلسات علنية أشرفت عليها هيئة الحقيقة والكرامة، وتأتي مرحلة الاستماع العلني بعد أن استمعت الهيئة الحكومية التي أنشئت أواخر 2013 إلى حوالي 11 ألف ملف في سرية.
وكان أبرز أمر لافت للنظر هو غياب الرئاسات الثلاث، الذي اعتبره البعض رسالة واضحة خاصة وأن عدداً كبيراً من الضحايا كانت مآسيهم في عهدٍ كان فيه الباجي قائد السبسي رئيس الجمهورية الحالي مسؤولا مباشرا، ومحمد الناصر رئيس البرلمان الحالي عضواً في حزب الجلادين.
ومع انطلاق روايات الضحايا وسردهم للمظالم وشكل التعذيب المفزع الذي تعرضوا له، شهدت مواقع التواصل الإلكتروني تعاطفا كبيرا من العامة لهول ما سمعوا من شهادات عن نظام كانت أداة بقائه هي أعينه الرخيصة التي تراقب كل من يعارض سياساتهم وجلاديهم الذين لا يملكون رحمة في قلوبهم إن كانت لهم قلوب. شهادات كشفت الوجه الحقيقي للمنظومة التي كانت تعلي قيم الديمقراطية والتقدمية والحداثة، كشفت عن مدى حقدها خاصة عن كل نَفَسٍ إسلامي يطالب بالتغيير.
إلا أن العديد من الذين تخفَّوا في الأيام الأولى للثورة وعادوا بعودة رموز النظام القديم بل وقد مارس بعضهم مسؤوليات في الحكم، لم تَرُقْ لهم الشهادات واعتبروها تحريضا على الفتنة وتقسيم المجتمع، وراحوا يهاجمون رئيسة الهيئة سهام بن سندرين، فقد كتب الوزير السابق بحكومة الحبيب الصيد والقيادي بحركة نداء تونس لزهر العكرمي تدوينة الفايسبوك "مسرحية سيئة الإخراج... ناقص كان طبّلة وزكرة" في إشارة إلى جلسات الاستماع، من جانبه قال النائب بمجلس نوّاب الشعب، وليد جلاّد، يوم الجمعة 18 تشرين الثاني/نوفمبر 2016، إنّ ما حدث هو عدالة انتقامية وليس عدالة انتقالية، معتبرا أن أصحاب الشهادات تم تلقينهم.
جلسات الاستماع وإن كان يحسب لها أنها أعادت للذاكرة الشعبية مرة أخرى جرائم بشعة لم تتم محاسبتها إلى الآن بل لا زال عدد من الذين اقترفوها يباشرون الحكم اليوم أو التنظير للحكم الراشد ويطالب بعضهم بعودة رموز أخرى وإطلاق سراحها من جهة وباستئصال أي صوت مطالب بالتغيير الحقيقي، إلا أنها لن تكون ضمانة حقيقية للعدالة، فخلف هذه الملفات ملفات أخرى قد لا يتجرأ على فتحها لا الهيئة الحالية ولا أي طرف هو جزء من المنظومة التي أعادت صياغة نفسها بمزج القديم بالجديد والبحث عن مصالحة بين الجلاد والمتضررين لطي ملف الثورة وفرض بقاء دار لقمان على حالها.
وقد صرح السفير الفرنسي "أوليفيي بوافر" بأنه معجب بالتجربة التونسية في مجال العدالة الانتقالية في تعليقه على الجلسات العلنية لهيئة الحقيقة والكرامة.
وأضاف أنه بفضلها، الديمقراطية التونسية تعطي الكلمة لأولئك الذين دافعوا بحياتهم من أجل حرية الضمير وحقوق الإنسان مشيرا إلى أن "تونس تعطي مرة أخرى المثال".
في حين إنه تناسى أن دولته ظلت تدعم الدكتاتورية في تونس إلى آخر رمق وحتى أيام الثورة، حين عرضت آنذاك وزيرة داخليتها على بن علي مساندة بإرسال معدات قمع الاحتجاجات.
كيف لا وبرنامج العدالة الانتقالية اقتصر على الفترة التي امتدت بين 1954 و2013، فتغلق بها ملفات الاستعمار واتفاقياته التي لا زالت سارية إلى اليوم ولا يتم اعتبار فرنسا كمجرم وهي التي كانت مستعمرة تقتل جماعيا وتعتقل جماعيا، تغتصب النساء وتخطف الأطفال وتجندهم قسريا، فضلا عن نهبها لثروات البلاد، وجعلها برنامج العدالة الانتقالية كان من اللحظة الأولى بدعم مالي من أطراف خارجية، خاصة عبر البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة (PNUD)، هذه الهيئة التي كانت لا تحرك ساكنا في السابق عن جرائم بن علي، ثم إن تدخلها هذا هو محاولات لفرض نمط من الانتقال لطالما دعموا لأجله جمعيات ومنظمات وتمويل ندواتهم ومؤتمراتهم حتى يكون التغيير مجرد تغيير وجوه لا تغيير منظومة أخرى تناقض المنظومة العالمية الرأسمالية التي تعتبر كل هيئات الأمم المتحدة ومنظماتها أبرز وسائلها في العالم.
كما أن أهم ما أفشل مسار العدالة في تونس هو المسار التشريعي الذي أشرفت هذه المنظمات على كتابة الدستور وتعديل المجلات القانونية، فالعدالة ظلت مقترنة بتوجهات مجموعات الضغط (اللوبيات) في تونس وحرصها على ضمان مصالحها في البلاد ومعارضتها للمشروع الذي أنزله الله تعالى للبشر ويحقق العدل والطمأنينة بينهم.
جلسات الاستماع هذه ربما كانت فرصة لتعرض جزءاً من الحقيقة ولكنها ليست مسار الحق، لأن المنظومة الفاسدة الظالمة لا زالت قائمة، حتى إن الممارسات السابقة نفسها لا زالت قائمة تحت مسمى الحرب على (الإرهاب).
إن المحاسبة يجب أن تكون تحت مسؤولية دولة لا تخضع لأية إملاءات أو تدخلات خارجية فتفتح ملفات الاستعمار ووكلائهم في بلادنا، ولا يجعل ملفا للمقايضة بين المتشاكسين والخصماء السياسيين ويتاجر بآلام الضحايا، ولن تكون العدالة عادلة إلا إذا كانت قوانينها مستجيبة للتشريع العدل؛ تشريع الوحي من العليم الخبير.
وإنه لمن الواضح والثابت أن هذه الأنظمة تفتح هذه الملفات كي تغلقها، ولكن دولة العدل والحكم الراشد ستفتح حتما كل ما اقتُرف في حق هذه الأمة وأبنائها، وما ذلك على الله بعزيز...
يقول الحق تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾
بقلم محمد ياسين صميدة*
* عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في ولاية تونس
رأيك في الموضوع