إن مشروع الموازنة هو مقترح تقدمه الدولة لإيراداتها ونفقاتها في العام المقبل، أما الميزانية فهي تكون في نهاية العام، وهي أرقام حقيقية لما تم توريده وما تم إنفاقه وصرفه، أما الموازنة فتكون قبل بداية العام وهي إيرادات ومصروفات متوقعة يعني متصورة، لم تتم في الواقع. ففي الثالث من تشرين الأول/أكتوبر 2022 قدم وزير المالية جبريل إبراهيم الموازنة في لقاء مع اللجنة الفنية المختصة، وبقراءة سريعة لهذه الموازنة نجد أن هذه الموازنة جاءت تأكيدا لما كانت تقوم به حكومة الإنقاذ في آخر عامين.
فعندما أسلمت حكومة السودان أمرها بالكامل لصندوق النقد والبنك الدوليين قامت بوضع الموازنة عام 2018 الذي كان أسوأ عام مر على أهل السودان، حيث ارتفاع جنوني في الأسعار وهو الذي عجل بسقوط الإنقاذ. وعندما جاءت الحكومة الانتقالية قادها عملاء الاستعمار أنفسهم ومنهم رئيس الوزراء السابق عبد الله حمدوك ووزير المالية إبراهيم البدوي، فالسيرة الذاتية لهما تقول بأنهما من خدم الاستعمار؛ فقد أمضيا عقودا من الزمان موظفين في صندوق النقد الدولي فهما من أدواته. فقامت الحكومة الانتقالية بتكملة الجريمة بالتعويم الكامل للجنيه السوداني، وانخفضت قيمته بشكل كبير ما أدى إلى مضاعفة التضخم وارتفاع الأسعار، وزاد الطين بلة عندما قام إبراهيم البدوي بزيادة المرتبات 600% ما يحتم ضخ كميات ضخمة من النقد، ثم قام الوزير الحالي بالسير في الخط نفسه، حيث قام بإلغاء ما يسمى بالدولار الجمركي الذي هو بسعر أقل كثيرا من سعر الصرف الحالي للجنيه السوداني مقابل الدولار فأصبح الدولار بسعره الحر هو أساس تقدير الجمارك، فضاعف ذلك من أثمان السلع، وهذه جريمة ترتكبها الحكومة بإنفاذها سياسات صندوق النقد والبنك الدوليين.
وباستعراض ما جاء بمقترح موازنة العام 2023 نجد أنه:
جاء في الموجهات العامة لمشروع الموازنة المقترح النقطة الأولى: تحقيق استدامة الاستقرار الاقتصادي باستقرار سعر الصرف وخفض معدلات التضخم. وهذه فرية وكذب تدعيه الحكومة حيث إنها قالت بأنها ستقوم بضخ كميات من النقد وطباعة كميات من النقد من فئة الألف جنيه، وهذا يعني انخفاض العملة وارتفاع سعر الصرف وزيادة معدلات التضخم وهذه من بديهيات الاقتصاد.
أما الموجّهات العامة فتقول برفع معدلات الجهد المالي والضريبي في الناتج المحلي الإجمالي إلى المستويات الإقليمية، وهي واحدة من جرائم النظام الرأسمالي حيث يقرر الرأسماليون أن تكون نسبة الضريبة التي تأخذها الدولة من الناتج الإجمالي المحلي على أقل تقدير 15%، ويزعم وزير المالية ومدير الضرائب أن النسبة في السودان للضريبة من الناتج المحلي لا تتجاوز 7%، وهذا يعني أن أهل السودان موعودون بمضاعفة العبء الضريبي وزيادة الأسعار ورفع معدلات التضخم وخفض العملة.
والنقطة الثالثة تحدثت عن اتخاذ قرارات بشأن الوحدات الحكومية المتعثرة. وهذه إشارة واضحة لخصخصة مزيد من مصالح الحكومة والوحدات الحكومية لصالح القطاع الخاص وبالتالي تحويل مصالح الرعية إلى عملية ربحية بدل الرعاية.
وما يؤكد عمالة الحكومة لصالح الاستعمار؛ جاء في نقطة من الموجهات العامة تشير إلى تشجيع الاستثمار الأجنبي وإزالة العقبات الإجرائية والتشريعية في سائر القطاعات وهذا يجعل موارد وثروات البلاد نهبا للمستعمر.
إن ما يعيب هذه الموازنة العامة في بند الإيرادات العامة في النقطة الثانية تقول "استنباط مصادر إيرادية حقيقية جديدة لزيادة الموارد" يعني الموازنة تبشر بأنها ستبتكر وسائل وأدوات جديدة تتمكن عبرها من زيادة دخل الحكومة، فمثلا من ابتكارات هذه العقلية الرأسمالية القذرة قامت الحكومة بفرض حملات للقبض على المتسولين وفرض غرامات تصل إلى 2000 جنيه على كل متسول في اليوم.
كذلك في البند الثاني تقوم الدولة بتعظيم العائد من المنتجات البترولية المحلية فتقوم بفرض ضرائب ورسوم إضافية على أسعار النفط، يتحمله الناس لتزيد من الجبايات بدل توزيعه على الناس بالمجان وبذلك تقوم الدولة بسرقة الأموال.
كذلك في البندين السابع والثامن يتحدث عن تقديره الرسوم الإدارية وفئات رسوم الخدمات للهيئات العامة، ستقوم أيضا بفرض الجمارك ورسوم الإنتاج وغيرها على المؤسسات الحكومية والأصل فيها أنها خدمية وليست ربحية. ويقول في الموازنة العامة المقترحة "تفرض الجمارك على الأعمال التي تقوم بها شركات الدولة على أساس تجاري ربحي وليس خدمي" ما يزيد من معاناه الناس ويغلي الأسعار، قال ﷺ: «مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ فَإِنَّ حَقّاً عَلَى اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ مِنْ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ».
كذلك في النقطة الأولى وضع مقترحات للوقود والكهرباء والمياه والصرف الصحي إلخ وفقا للأسعار المحددة من الجهات المقدمة للسلع أو الخدمة، وهذا فيه إعلان مباشر من الدولة بأنها تتملص من مسؤولياتها في رعاية شؤون الناس في أهم شئون حياتهم، وذلك يعمق من جراحات الناس ويزيد من معاناتهم، قال رسول الله ﷺ: «يَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا» وفي حديث عائشة: «اللَّهُمَّ مَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئاً فَشَقَّ عَلَيْهِمْ فَاشْقُقْ عَلَيْهِ وَمَنْ وَلِيَ مِنْ أَمْرِ أُمَّتِي شَيْئاً فَرَفَقَ بِهِمْ فَارْفُقْ بِهِ».
ختاما أقول إن الموازنة في النظام الرأسمالي والتي تطبقها حكومات البلاد الإسلامية ما هي إلا نهب واستنزاف لموارد وثروات الأمة وجريمة لا يقدم عليها إلا كل خائن وعميل، وصدق فيهم ما قاله جاك بروتشيلد "إنهم يأتون بحكام يأخذون أموال شعوبهم ويضعونها عندهم في أمريكا والغرب، وإذا احتاجت الشعوب نقرضهم من مالهم ولا يكلفنا ذلك إلا تولية وزير مالية من جنودنا. ثم يسترد المال الذي أقرضوه إياه من مالنا عبر الربا المضعف". يأخذونه أضعافا مضاعفة فيسرقوننا مرات ومرات، ولا مخرج ولا حل لهذا الوضع الكارثي إلا بإزالة هذه الأنظمة العميلة الخائنة وإقامة نظام الحكم الإسلامي في ظل دولة الخلافة الراشدة الثانية على منهاج النبوة التي بشر بها النبي ﷺ والتي آن أوانها.
بقلم: الأستاذ ناصر رضا (أبو رضا)
رئيس لجنة الاتصالات المركزية لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع