أظهرت طبيعة الاحتجاجات التي اندلعت في إيران عقب مقتل الشابة الكردية مهسا أميني يوم 16 أيلول 2022، على يد شرطة الأخلاق الإيرانية، ارتباك الأجهزة الإيرانية في التعامل معها، أظهرت مؤشرات عدة على صعيد بنية النظام وسلوكه في التعامل مع مثل هذه التحركات، وكذلك في النتائج التي أوصلت إليها عقود حكمه وأثرها على الداخل الإيراني وتأثيرها على المحيط الإقليمي والإسلامي وعلى طبيعة علاقاته مع الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا، وفيما إذا كان بمقدوره إخماد وتيرة هذا الحراك ببعض التنازل للناس وإصلاح النظام ما أمكن، أم السير على خطا الأنظمة الاستبدادية في تخوين المحتجين والاستخفاف بمطالبهم وجرهم إلى العنف والتسلح لتبرير استبداده وقتله للناس حفظاً للوطن بزعمهم من مؤامرات خارجية!
في ظل هذا التخبّط والتشرذم وفقدان الثقة والأمل الحاصل بين شريحة واسعة من الشعب الإيراني والنظام، سنحاول الوقوف على محطات بارزة في عقود حكم هذا النظام ونلقي الضوء على الأسباب أو الدوافع التي أدت إلى حالة الطلاق هذه، بين عموم الشعب الإيراني من جهة والنظام الحاكم بأجهزته الأمنية والمنتفعين منه من جهة أخرى.
بداية يمكن التأكيد على أنّ ما تقوم به حكومة ولاية الفقيه والأجهزة الأمنية التابعة لها بحق المتظاهرين من قتل وتعنيف واعتقال كان من السهل على نظام الشاه القيام به بحق أنصار الخميني عندما بات الشاه أمام خيارين: إمّا أن يضرب بيد من حديد عن طريق قيادات الجيش التي تدين بالولاء له، أو القيام بحكومة انتقالية يتولاها صديقي وهو وزير الداخلية في حكومة مصدّق آنذاك، لكن كلا الخيارين قوبلا بالرفض الأمريكي الذي أوعز للشاه بترك السلطة ومغادرة البلاد إلى أمريكا وتسليم البلاد لضباطٍ في الجيش موالين للخميني. وهو تماماً ما كان يتم التخطيط له وبتنسيق مستمر من السفارة الأمريكية في طهران والمخابرات الأمريكية التابعة لإدارة الرئيس كارتر مع الخميني وأنصاره داخل السلطة.
بقي هذا التنسيق الأمريكي الإيراني الخادم للمصلحة الأمريكية طوال عقود حكم الملالي حتى قيام هذه الاحتجاجات الأخيرة، ولا يذكر أن مرَّ على النظام الإيراني وضع أمني مضطرب إلّا وخرج معه مسؤول داخل الإدارة الأمريكية معلناً تأييد إدارته لنظام الملالي، بالقول إنّ الإدارة الأمريكية لا تسعى لتغيير النظام في إيران بل إلى تغيير سلوكه، تماماً كما صرحوا مراراً وتكراراً في سوريا بضرورة تغيير النظام لسلوكه.
هنا يأتي التساؤل حول حقيقة جديّة هذا السعي لتغيير سلوك أمثال هذه الأنظمة القائمة على الأجهزة الأمنية والاستخباراتية منذ نشأتها، والتي تعتمد في بقائها ووجودها على استعمال العنف والترهيب والقمع وحتى القتل في حالة السلم فكيف بحالة خروج الناس عليها والمطالبة بإسقاطها، وكذلك بعد أن بات من المعلوم الفاضح أنّ مصالح الغرب وعلى رأسه أمريكا وسياستها الخارجية في الحقيقة إنّما تنفّذ من خلال هذه الأنظمة وحكامها؟
والمضحك المبكي في هذا المشهد الدامي للاحتجاجات الإيرانية تصريح المرشد الأعلى علي خامنئي في أول تعليق علني منه، حين اعتبر أنّ "أعمال الشغب" المناهضة للحكومة وراءها الأعداء اللدودون لإيران وحلفائها وهما أمريكا وكيان يهود. ولا نعلم إن كان تحالف نظام المرشد مع الأمريكي ومساعدته في غزوها واحتلالها وتدميرها لأفغانستان والعراق وقتل ملايين المسلمين فيهما مشهداً عابراً في فيلم هوليودي، أم يريد منّا التصديق بأنّ إجرام نظامه الهمجي بحق المسلمين في سوريا وإبادتهم وتدمير حواضرهم دفاعاً عن النظام المجرم وخدمة لأمريكا إنّما هو جهاد مقدّس وطريق يوصل إلى تحرير القدس؟! ومن قبْلُ فضيحة ما أطلق عليه "إيران غيت" والتي من خلالها تلقّت إيران أسلحة ومعدات عسكرية من كيان يهود وغيره بموافقة أمريكا لمساعدة إيران في حربها مع نظام صدام حسين، وكذلك وقوف إيران مع أرمينيا النصرانية طوال حربها مع جارتها أذربيجان المسلمة الشيعية.
وبالعودة إلى بنية النظام الحاكم في إيران التي أسسها الخميني على أنقاض حكم الشاه نجدها مولّدة للأزمات ويتصف هذا النظام بكونه مذهبياً قومياً براغماتياً، على الرغم من أن دستورها يقر بالاختلاف وحقوق العرقيات المختلفة.
فأصل الدعوة لإنشاء النظام (الإسلامي) في إيران قائم على فكرة وجوب من ينوب عن الإمام المعصوم المنتظر في المذهب الاثني عشري، وهذه الفكرة رغم معارضة العديد من مراجع الشيعة لها لمخالفتها النصوص التي تجعل من الحكم وتنفيذ الأحكام إنّما هي من صلاحيات الإمام المعصوم المغيّب منذ سنة 260 للهجرة، هي في الوقت ذاته لم تتصف بصفة الشمول من حيث تمثيلها جميع مذاهب الأمّة الإسلامية، بل اقتصرت على المذهب الاثني عشري أو الجعفري، ويمكن الجزم بأن كل سياسات إيران تقوم على فكرة التمهيد لخروج الإمام المغيّب وتكريس القومية الفارسية وثقافتها وإن كانت من مخلّفات المجوسية وتعارض قيم الإسلام وعقيدته.
هذا ما شكّل نقطة صدام مع عموم الأمة الإسلامية والسنّة منهم بشكل خاص لكونهم يشكّلون غالبية تعداد الأمة الإسلامية، ولهذا لا نكاد نجد قبولا لهذا النظام عند السنّة بالعموم وعند أتباع عدد من مراجع الشيعة. علماً أنّ الرفض لهذا النظام جاء منذ بداية نشأته وإعلان شكل الحكم وطرح الدستور وطريقة تعامله مع المخالفين له. فلا يفهم رؤية الخميني حين يطرح نظاماً جمهورياً يقوم على مذهب شيعيّ بعينه يخصّه بالشعب الإيراني وبالحدود الوطنية السياسية لدولة الشاه وعلم قومي مطعّم بألفاظ إسلامية، ثم يريد تعميمه في بلاد المسلمين على اعتباره طرحاً إسلامياً شاملاً للأمة الإسلامية. وهذا بحد ذاته قصور في النظر وفي فهم الإسلام والمشروع الملائم لجمع شمل أمة الإسلام تحت حكم واحد ودستور واحد وراية واحدة.
ويكفي في إظهار مدى التعصّب القومي المقيت لدى كلّ من الخميني وخامنئي أنّهما ما كانا يتنازلان عن التكلّم باللغة العربية مع زائريهما من الحكام والضيوف العرب حتى منهم رجال دين، مع أنهما يتقنان العربية لدرجة أن مقطعاً مصوراً لخامنئي مع مشايخ ورجال دين عرب يظهره كيف يقوم بتصحيح الترجمة للمترجم في حال نسي أو لم يعبّر عن مراد آية الله العظمى.
مثل هذا السلوك من شخص اعتبر نفسه قدوة ويريد تصدير الثورة يظهر جوانب خفية عن طبيعة النظام الإيراني، وعن جوانب تفضح حقيقة الثقة المتبادلة بين الطبقة الحاكمة وباقي الطوائف والمذاهب والأعراق الأخرى داخل الحدود السياسية للدولة، فبحسب تقرير نشره المعهد الدولي للدراسات الإيرانية فإن 78% من المناصب العليا في إيران تحتكرها القوميَّة الفارسيَّة.
هذا الأمر بطبيعة الحال يندرج على باقي وظائف الدولة وما فيها من امتيازات خصّت بها القومية الفارسية دون غيرها، ولو اقتصر الحال على هذا لربّما كان رد الفعل من العرقيات الأخرى أقل مما نراه في كل أزمة يتعرض لها النظام، لكن جملة من السياسات الإقصائية وتغير الهوية طوال العقود المنصرمة بحق القوميات والمذاهب الأخرى شكّل سبباً من جملة من الأسباب لحالة خروجهم مراراً على النظام الإيراني والمطالبة بإسقاطه والاستقلال عنه أو على أقل تقدير إنشاء حكم ذاتي.
هناك مسألة ينبغي الإشارة إليها في سياق الاحتجاجات الأخيرة وهي الهجمة الشرسة من أصحاب التوجّه العلماني، من خلال الدفع لإظهار أنّ حقيقة المطالب هي الحريات والمفاهيم العلمانية التي تبنّاها الغرب، وتسليط الضوء على ربط سلوك النظام الإيراني وإجرامه وفشله في الإدارة والرعاية بالإسلام، ولهذا وجدنا حجم التعاطف والدعم لأفعال مخالفة للدين مثل خلع الحجاب أو حرقه أو حرق للمصحف أو قيام بعض الحركات النسوية بما يخدم فساد المرأة المسلمة. فمثل ردات الفعل هذه باتت أداة وحجة تتخذها إيران لتبرير استبدادها للناس واعتبارهم أعداء للإسلام والمسلمين، فتحرّف الأنظار عن فسادها وفشلها وتظهر المحتجين همجاً يخدمون مصالح الغرب.
فالتاريخ والواقع والحقائق تظهر أنّه بعد أكثر من أربعة عقود من حكم الملالي لإيران أنّ هذا النظام الحاكم فشل في جلّ الأمور والقضايا المتعلقة برعاية الشؤون داخل الدولة، وقام بتمزيق شمل المسلمين على مستويات عدة في الداخل والخارج، وكان ولا يزال أداة في تنفيذ مصالح الغرب في بلاد المسلمين وعلى رأسه أمريكا. وبالتالي فهو شأنه شأن دويلات سايكس بيكو دون استثناء بات عائقا أمام استعادة الأمّة سلطانها وتوحيد صفّها والتخلّص من المستعمر وأفكاره وأدواته ونهبه خيراتها.
بقلم: الأستاذ عبد الله العلي
رأيك في الموضوع