من المعلوم أن لفرنسا مصالح حيوية كبيرة في قارة أفريقيا عامة، وعلى وجه الخصوص دول الساحل الأفريقي الخمس التي تشكلت في إطار مؤسسي يوم 16/04/2014 في نواكشوط تحت عنوان "مجموعة الساحل الخمس" بغرض التنسيق والتعاون الإقليمي في سياسات التنمية والشؤون الأمنية، والتي تشمل مالي والنيجر وبوركينا فاسو وتشاد وموريتانيا. إلا أن نفوذ فرنسا الاستعماري لا يقتصر على هذه الكيانات الهزيلة، بل يمتد إلى أكثر المناطق في وسط وغرب القارة، كما أن مصالحها في تلك البلاد متعددة ومتنوعة. فمثلاً النيجر التي لا تزال فرنسا تسيطر عليها وتعض عليها بالنواجد ضرورية لها بحكم أن نسبة كبيرة ومعتبرة من مادة اليورانيوم المستخدم في المفاعلات النووية الفرنسية يأتي منها، إذ توفر هذه المفاعلات نحو 75% من الطاقة الكهربائية في فرنسا، ولا يخفى ما سينالها من أزماتٍ على الصعيد السياسي والأمني والاقتصادي وخاصةً في مجال الطاقة في حال ذهب استقرار تلك المنطقة. ومن الجلي أن لفرنسا في شمال أفريقيا وفي الجزائر تحديداً نفوذاً ومصالح كبيرة ومتعددة في كافة المجالات؛ سياسية، اقتصادية، ثقافية، وأمنية، تستلزم تفاهماتٍ سياسية تتعلق بضرورة التنسيق لمواجهة الأزمات الإقليمية فضلاً عن التحديات العالمية الجديدة. وبالنظر إلى أنَّ لبريطانيا الاستعمارية أيضاً مصالح ضخمة ومآرب في جنوب القارة الأفريقية وشمالها، كان لا بد من الاستقرار في شمال أفريقيا وخاصةً في الجزائر، ومن تفعيل دورها على الصعيد السياسي وبالأخص الصعيد الدبلوماسي. ومن ذلك ما أنيط بالجزائر مؤخراً من محاولة (لم شمل) الفرقاء الفلسطينيين حماس وفتح، و(رأب الصدع) داخل المجموعة العربية، لا سيما وهي تتأهب في هذه الآونة لاستقبال وفود دول الجامعة العربية تحضيراً للقمة التي ستعقد بتاريخ 01/11/2022 في الجزائر، فهل ستكون قمة الجزائر ناجحةً؟ وهل سيكون رأسُ نظام دمشق المجرم حاضراً؟ وكان لا بد أيضاً من تسخير الجزائر عسكرياً وأمنياً لمواجهة زعزعة الاستقرار في المنطقة، حيث اجتمع في هذا الإطار مؤخراً قادة جيوش أربعة من دول الساحل في الجزائر يومي 13-14/10/2022 لبحث آليات عمل لجنة الأركان المشتركة بغرض زيادة مستويات التنسيق الأمني والعسكري المشترك وتطوير وإعادة تنشيط دور هيئة التعاون والتنسيق العملياتي في المنطقة.
فبات لا مناص إذاً لشركاء الاستعمار القديم من التنسيق من أجل تحقيق تلك المصالح المشتركة ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية في ظل الأطماع الاستعمارية والصراع الدولي المحتدم على القارة، خاصة في هذا الظرف العصيب على الدول الأوروبية وما يقع عليها من ضغوط أمريكية على خلفية الحرب في أوكرانيا وتداعياتها السياسية والأمنية وانعكاساتها الاقتصادية الكارثية عليها. وفي هذا السياق ذاته تتحرك فرنسا للمحافظة على تلك المصالح والمنافع، فقد حلَّت بالجزائر يوم الأحد 09/10/2022م رئيسة الحكومة الفرنسية إليزابيث بورن يصحبها 16 وزيراً في زيارة رسميةٍ غير مسبوقةٍ في تاريخ العلاقات بين الجزائر وفرنسا من حيث تشكيلة الوفد الوزاري وحجمه. وقد التقت في اليوم الثاني من الزيارة بالرئيس الجزائري عبد المجيد تبون، بغرض تفعيل ما أُطلق عليه (الشراكة المتجددة الدائمة) بين البلدين. وتجدر الإشارة إلى أنه سبق وأنْ حلَّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يوم 25/08/2022 ضيفاً على النظام الجزائري في زيارة دامت ثلاثةَ أيام أعلن خلالها عن ضرورة تجديد العلاقة بين الجزائر وفرنسا، على خلفية استتباب الوضع في الجزائر بعد انتهاء الحراك الشعبي الذي انطلق مع مطلع سنة 2019 وخمود زخمه وتداعياتِه، وضرورة الاتفاق في المرحلة المقبلة على أرضية جديدة للتفاهم والتعاون.
وقد بات واضحاً أن الصراع قد حسم في الجزائر لصالح عملاء بريطانيا وتم تجاوز تداعيات الحراك، فيما بدا هدنة ظرفية بين عملاء الطرفين الإنجليزي والفرنسي في الجزائر بعد التدخل الحاسم للمؤسسة العسكرية والأمنية عبر ركوب موجة الاحتجاجات واحتوائها باستخدام التيار النوفمبري – الباديسي (الوطني والإسلامي الوسطي) الجاهز دوماً للتوظيف السياسي في مآرب الخصوم. ولكن من الواضح أن مسألة توفير الطاقة من غاز ونفط الجزائر لفرنسا ولدول أوروبا الأخرى على خلفية الحرب المشتعلة في أوكرانيا وتداعياتها وأهداف أمريكا من الحرب وما فرضته أمريكا على أوروبا من قطع الصلة في مجال الغاز وغيره مع روسيا، وكذلك التعاون في المجالين الثقافي والاقتصادي، على أهميتهما للجانب الفرنسي، لم تكن وحدها القضايا الملحَّة والملفات المطروحة التي جاء من أجلها الوفد الفرنسي. فقد كان بادياً أن التحديات التي باتت فرنسا تواجهها في مستعمراتها الأفريقية وخاصة في دول الساحل الأفريقي، تصدرت هواجسَ المسؤولين الفرنسيين. للتذكير فإن الرئيس الجزائري تبون كان قد وقَّع مع الرئيس الفرنسي ماكرون خلال زيارة هذا الأخير للجزائر في شهر آب/أغسطس الماضي على اتفاقيات عدة، شملت أموراً عدة كان من بينها ضرورة تفعيل "إعلان الجزائر من أجل شراكة متجددة"، وهو الإعلان الذي نص على اتفاق البلدين على تدشين حقبة جديدة من التفاهم تتجاوز التوترات السابقة، ومقاربة ملموسة وبنَّاءة تُركِّز على المشاريع المستقبلية والشباب، وأن الشراكة المميزة الجديدة باتت "مطلباً يمليه تصاعد التقلبات وتفاقم التوترات الإقليمية والدولية". وهذا بالتأكيد هو ما جاء وفد الحكومة الفرنسية من أجل تجسيده.
إلا أنه لا بد من لفت النظر إلى أن الجزائر وفي سياق المهام المنوطة بها على الصعيدين العسكري والأمني كانت قد رصدت في مشروع قانون الموازنة (التمهيدي) للسنة الجديدة 2023، الذي أُرسل للبرلمان للمصادقة، أضخم ميزانية دفاعية في تاريخها وصلت إلى نحو 23 مليار دولار، أي ما يقارب 3 أضعاف ما كانت عليه في السنة الماضية، وأن النظام الجزائري يواجه في هذه الآونة ضغوطاً سياسية كبيرة ومتزايدة غير مباشرة من الإدارة الأمريكية بسبب دورها في الدول الأفريقية جنوب الصحراء، ولكن أيضاً بسبب موقفها من الحرب في أوكرانيا وعلاقتها التاريخية مع روسيا خاصةً في موضوع صفقات السلاح، وكذلك بالنظر إلى أن أمريكا لا تريد في هذا الظرف لدول أوروبا (خاصةً ألمانيا، فرنسا، إيطاليا، وإسبانيا) تنويع مصادرها من الطاقة وإيجاد بدائل عن الغاز الروسي خارج الإرادة الأمريكية وأهدافِها من الصراع. وإذ خطَّطت أمريكا من خلال الحرب في أوكرانيا لإخضاع أوروبا وإبقائها تحت مظلتها وحماية الحلف الأطلسي ومنعها من أن تصبح قطباً دولياً منافساً مستقلاًّ، وكذلك لمحاصرة روسيا مالياً واقتصادياً واستنـزافِها عسكرياً، فقد تعالت أصوات برلمانيين في أمريكا من الكونجرس أبدت استياء كبيراً من موقف الجزائر وصلت إلى حد التلويح بوجوب معاقبتها على توفير المال لبوتين عبر مبالغتها في شراء السلاح الروسي. وفيما بدا أنه عمل سياسي يراد منه تسميم العلاقة مع أوروبا وتحديداً فرنسا، وممارسة المزيد من الضغط على الجزائر في هذا الظرف، فجَّرت جريدة نيويورك تايمز الأمريكية يوم الاثنين 17/10/2022 فضيحة مدوية بشأن هوية عدد من الجماجم التي أعادتها فرنسا للجزائر سنة 2020، حيث أوردت الجريدة خبراً مفاده أن تلك الجماجم لا تعود كلها لمقاتلي المقاومة الشعبية من الثوار والمجاهدين من أهل الجزائر إبان الفترة الاستعمارية، وأن 18 من بين 24 جمجمة كانت الجزائر قد استرجعتها من فرنسا بموجب اتفاقية 26/06/2020 في إطار إعادةِ بناء العلاقة مع فرنسا وفي سياق معالجة ما سمِّي ملف الذاكرة بين البلدين، لم يكن أصلها مؤكداً، وأن تلك الرفات هي في الحقيقة للصوص كانوا مسجونين أو لجنود من المشاة الجزائريين ممن تعاونوا مع فرنسا أو خدموا في جيشها.
والسؤال الذي يجب أن يطرح هو إلى متى ستظل الدول الغربية الاستعمارية تسخِّر الجزائر وغيرها من دول المنطقة عبر أنظمتها المرتبطة بها والخانعة، بل تسخِّر كل الكيانات القائمة في بلاد المسلمين، في خدمة مصالحها على حساب مصالح أهل البلاد؟! الجواب هو أنه منذ ذهاب دولة الخلافة، التي احتضنت المسلمين كافة وجمعت شملَهم قروناً عديدة، دخلت الأمة الإسلامية في هذه الحالة الغريبة المشاهدة من الفرقة والتشظي ومن الضعف والتردي، لذا كان لا بد من العودة إلى ما يرضي الله سبحانه ورسوله ﷺ في كنف عزِّ الإسلام وقوته، وفي ظل دولة الإسلام وشريعته. وهذا هو المشروع الذي يحمله حزب التحرير للأمة الإسلامية من أجل إعادةِ قطارها إلى السكة.
رأيك في الموضوع