منذ اندلاع الاحتجاجات في مطلع تشرين الأول 2019 في العاصمة العراقية بغداد ومحافظات وسط وجنوب البلاد والتي عُرفت بـ"ثورة تشرين" كردة فعل غاضبة على تردي الأوضاع وانتشار الفساد في جميع القطاعات وإلى الآن، والعراق يتخبط في فوضى سياسية عارمة، ومعاناة الناس تزداد سوءا بعد سوء، والسبب في ذلك أن جميع دعاة التغيير، ليس لديهم وعي سياسي، ولا رؤية سياسية واضحة، ولا خارطة سياسية بديلة، فتراهم يتجاوزون المرض وينشغلون بالأعراض، ولبيان ذلك نضع مطالب دعاة التغيير منذ احتجاجات تشرين وإلى الآن أمامنا، ليتبين لنا مدى الضياع والتيه الذي يعيشونه.
طالب متظاهرو تشرين بإسقاط حكومة عادل عبد المهدي وتشكيل أخرى مؤقتة وإجراء انتخابات مبكرة، فضلا عن التنديد بالتدخلات الخارجية، ومنها الإيرانية، وكان ثمن هذه المطالب سقوط مئات القتلى وآلاف الجرحى، كما اعتقل المئات خلال المواجهات بين القوات العراقية والمحتجين، وكانت ثمرة هذه الاحتجاجات، استقالة عادل عبد المهدي، وتكليف مصطفى الكاظمي بتشكيل حكومة مؤقتة، والتمهيد لإجراء انتخابات مبكرة.
تم إجراء الانتخابات المبكرة في العاشر من تشرين الأول 2021م، وكانت النتائج لصالح التيار الصدري بتصدره بـ73 مقعدا، وتراجع القوى الشيعية الأخرى، وقد حاولت القوى الخاسرة تغيير النتائج بشتى الوسائل بدعوى تزوير الانتخابات، ولكنها باءت جميعها بالفشل. إذاً ما الذي حصل، ولماذا لم تشكل الحكومة حتى الآن؟! وهنا مربط الفرس، لأن الدستور الذي وضعه المحتل، وملأه بالألغام، وعند كل حدث يفجر لغما على أنه تفسير للمادة كذا وكذا، ففي الديمقراطية العفنة يشكل الحكومة الحزب الفائز، وعندما فاز إياد علاوي في انتخابات 2010م، اعترض نوري المالكي، فخرجوا لنا بتفسير، أن الذي يشكل الحكومة ليس الحزب الفائز بل الكتلة الأكبر، فذهب الجميع للتكتل حتى مع الأضداد، وتمكن المالكي من إعلان الكتلة الأكبر، وتشكيل الحكومة، وعندما فاز التيار الصدري في الانتخابات الأخيرة وتمكن من تكوين الكتلة الأكبر، خرج تفسير ثان للدستور، وهو قضية الثلث المعطل، وهي عدم إمكانية عقد جلسة مجلس النواب للتصويت على منصب رئيس الجمهورية، في حال لم يكتمل نصاب الثلثين (220 من أصل 329 نائبا)، وهكذا لم تتشكل الحكومة وقد مضى على الانتخابات أكثر من تسعة أشهر بين جذب وشد، فأعلن مقتدى الصدر استقالة نوابه من مجلس النواب، وظل يهدد ويتحدى الإطار بتشكيل الحكومة، وبعد خروج التسريبات وفي هذا الوقت الحرج، اضطر المالكي للانسحاب وترشيح محمد شياع السوداني المقرب من المالكي، فما كان من مقتدى الصدر إلا النزول إلى الشارع ومنع تشكيل الحكومة، وتمكن أتباعه من دخول المنطقة الخضراء والاعتصام المفتوح في مجلس البرلمان، وكانت آخر دعواه، حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة جديدة، وكذلك خرج متظاهرون مدنيون في ساحة الفردوس وسط بغداد، يوم الجمعة، ونادوا بحل مجلس النواب الذي وصفوه بـالعاجز، وإجراء انتخابات مبكرة بشروطها وهي (قانون انتخابي عادل، مفوضية مستقلة، تطبيق قانون الأحزاب)، جاء ذلك في بيان ختامي ورد لوكالة شفق نيوز موقع من 10 أحزاب منها (الحزب الشيوعي العراقي، وحزب الأمة العراقية، والجبهة الفيلية، وحراك البيت العراقي، وحركة تشرين الديمقراطية...).
وفي المقابل، أعلن تحالف الإطار التنسيقي البدء باعتصام مفتوح لأنصاره عند إحدى بوابات المنطقة الخضراء وسط بغداد، بموازاة اعتصام أنصار التيار الصدري داخل المنطقة، وسط تعارض بالمصالح والمطالب بين الطرفين، الأمر الذي ينذر بتداعيات خطيرة قد تُدخل البلد في دوامة المواجهة الشعبية. ومما يزيد خطورة الموقف بالشارع، أن الإطار التنسيقي يعتبر هذه الاعتصامات فرصته الأخيرة لإثبات وجوده، ويعوّل عليها في استرداد ما يعتبره حقه بتشكيل الحكومة الجديدة، باعتبار أنه يمثل الكتلة الكبرى برلمانياً بعد استقالة نواب الكتلة الصدرية، فلم يكن اجتياح التيار الصدري للبرلمان العراقي والاعتصام فيه حدثا مفاجئا، ولا التصعيد المضاد من الإطار والوصول إلى حافة الصدام مفاجئا هو الآخر، لتناقض المصالح والولاءات، فالكل يبكي على ليلاه.
أيها المسلمون: مما تقدم يتبين واضحا، أن الجميع (المتفقون والمتخاصمون)، لا يملكون أي علاج لمحنة هذا البلد، وأنهم كما أسلفنا، لم يشخصوا المرض، وكل علاجاتهم حول أعراضه، وأنهم لا يملكون أية خارطة سياسية صحيحة لإخراج البلد من هذه الفوضى الخانقة، فما فائدة تشكيل الحكومة؟! أو حل البرلمان والذهاب إلى انتخابات أخرى؟! فأس الداء وأساس الفساد قائم، وهو النظام السياسي، ودستوره الذي صاغه المحتل الأمريكي، تمكينا له من البلد، وتكريسا للمحاصصة الطائفية.
فنحن أمام مخطط خبيث لمحتل خبيث، يحاول تقزيم المشكلة وتضليل الناس، بجعل الفساد قضية أشخاص، لا قضية نظام.
نعم الكل فاسدون، وهم يعلنون ذلك على الفضائيات، كما جاء على لسان المالكي، حيث قال بالحرف الواحد: "لا يصح أن يكون للطبقة السياسية الحالية التي فشلت فشلا ذريعا في العراق أي مستقبل في رسم خارطة مستقبل العملية السياسية"، وكذلك صرح مشعان الجبوري ومعه حنان الفتلاوي "إن الجميع فاسدون".
ولكن ماذا يفعل الصالح في نظام فاسد؟! فإن اختيار الشخص الصالح في النظام الفاسد هو إفساد للشخص وليس إصلاحا للنظام، والدعوة إلى حل البرلمان وإجراء انتخابات جديدة على أسس النظام القائم وقواعده نفسها، دعوة ضالة ومضللة.
أيها المسلمون: لقد خلق الله الإنسان وجعله خليفة في الأرض، ولم يتركه يتخبط فيها حيث شاء، فيفسد فيها ويهلك الحرث والنسل، بل أرسل إليه الرسل، وختمهم بمحمد ﷺ، وأنزل عليه نظاما متكاملا ينظم حياته كلها، لينعم بحياة هنيئة وعيش كريم وطمأنينة دائمة، فأي علاج لأي واقع فاسد، لا يحصل إلا بالنظام الذي ارتضاه الخالق عز وجل للبشرية، وما شقاء الإنسانية اليوم إلا بسبب إبعاد سيادة الخالق، وتنصيب الإنسان نفسه طاغوتا يشرع من دون الله، وكل ما عدا ذلك ترقيع يزيد الطين بلة، والشقاء شقاءً، قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ...﴾.
هذا هو خلاصكم الوحيد وخلاص البشرية جمعاء؛ القضاء على الرأسمالية العفنة، وتحكيم شرع الله في دولة الخلافة على منهاج النبوة.
بقلم: الأستاذ مازن الدباغ
رأيك في الموضوع