كثر الحديث في الأشهر الماضية عن ضرورة إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في ليبيا في نهاية هذه السنة 2021، وأصبحت هذه الدعوة للانتخابات محل اهتمام غالبية الليبيين، وموضوع أحاديثهم في اجتماعاتهم وندواتهم وفي وسائل إعلامهم المختلفة، وحتى هذه الحكومة الجديدة؛ حكومة الدبيبة، جُعِل هذا الموضوع من أولوياتها القصوى للتحضير له وإنجازه في الموعد المحدد الذي تتبناه الأمم المتحدة، وترعاه بعثتها في ليبيا، وتلحّ وتصرّ على هذا الموعد هي وكثير من الكيانات والجهات المحلية والإقليمية والدولية، وعلى رأسها أمريكا التي تبنت الموضوع بقوة وتدخلت فيه بشكل سافر عن طريق سفيرها ومبعوثها الخاص في ليبيا، الذي يحذر ويخوّف الليبيين وينذرهم بالعواقب الوخيمة إذا لم يقوموا بإجراء الانتخابات في موعدها!! حيث قال: "إن ليبيا ستتعرض لضغط حقيقي من مجلس الأمن إذا لم تتم العملية الانتخابية، وأن المعرقلين سيتعرضون لعقوبات سواء أكانوا أفراداً أم كيانات"، ولم يتحدث السفير عن أكبر هؤلاء المعرقلين؛ صنيعتهم حفتر الذي أعلن أخيراً هو وأتباعه أنه لا يربطهم شيء بالحكومة الجديدة. وشاهد الليبيون والعالم هذه الحشود الكبيرة التي جمعها للاحتفال في بنغازي بما سماه (الذكرى السابعة لثورة الكرامة) وكأنه دولة داخل دولة، أو أنه دولة أخرى، وثورة أخرى موازية لثورة فبراير.
نعود فنقول: ماذا وراء هذا الاستعجال والإلحاح على إجراء الانتخابات في ليبيا في ظل هذه الانقسامات السياسية الحادة، وفي ظل الفوضى الأمنية وعدم سيطرة الحكومة على كل المناطق والمدن والحدود؟ وفي هذه المدة القصيرة المتبقية لصلاحية الحكومة؟
إن أمريكا التي بقيت طوال العشر سنوات الماضية من عمر الأزمة الليبية تراقب الأحداث من بعيد أو أنها تتدخل بطريق غير مباشر بواسطة عملائها المحليين والإقليميين، ورأت كما رأى غيرها ما مرّ به الليبيون من أزمات خانقة وظروف معيشية قاسية وما مروا به من حروب ودمار وانقسامات سياسية، وشاهدت ما مرت به الأزمة الليبية من تدخلات وصراعات محلية وإقليمية ودولية. إن أمريكا بعد أن رأت كل ذلك، وأدركت أن كثيراً من الليبيين وكثيراً من نخبهم أصبحوا مستعدين - مع الأسف - لقبول أية حلول ولو كانت من أعدائهم وأعداء أمتهم! أرادت أن تظهر بمظهر البطل المنقذ، وأن تلقي بثقلها بشكل مباشر في الأزمة، بل أن تنفرد بالحل في ليبيا خاصة بعد أن أوجدت بكل الأسف ما يعرف بالوسط السياسي المؤيد لها من بين النخب والكيانات.
إن أمريكا - التي هي مع غيرها من الجهات الدولية والإقليمية من أوصل البلاد إلى هذا الوضع المأساوي - أرادت استغلال معاناة الليبيين وما وصلوا إليه من هذا البؤس واليأس، فقامت بهذا التدخل المباشر في الأزمة، وجاءت بحلول فرضتها على الليبيين؛ جاءتهم بهذه الحكومة العجيبة التي لا تملك ولا تحكم، المنبثقة عن كيان أعجب وأغرب وهو (ملتقى الحوار السياسي الليبي) المكون من لجنة 75 التي اختارتها ممثلة البعثة الأممية في ليبيا، الدبلوماسية الأمريكية ستيفاني ويليامز، اختارتها بطريقتها الخاصة وهي ليست منتخبة ولا مختارة من الليبيين، وأُعطيت الصلاحية ومُنحت صفة الشرعية الدولية لهذه اللجنة أو هذا الملتقى السياسي بأن تنبثق عنه هذه الحكومة الجديدة وهذا المجلس الرئاسي الجديد الذي استطاعت به أمريكا إزاحة المجلس الرئاسي السابق برئاسة السراج المنبثق عن الصخيرات، وهكذا انتقلت الشرعية الدولية من الصخيرات إلى برلين وجنيف، وعلى الليبيين أن يستقبلوا هذه الشرعيات الدولية من وقت إلى آخر وهم لا شرعية لهم!
ولتتم عملية (التداول السلمي بين هذه الشرعيات الدولية) جاءت هذه الدعوات الملحة للاستعجال بالانتخابات البرلمانية والرئاسية حتى تتخلص أمريكا من الكيانات والشرعيات السابقة، المتمثلة في مجلس النواب، والمجلس الأعلى للدولة، والهيئة التأسيسية للدستور وغيرها، وبالإضافة إلى كون هذه الكيانات أو بعضها كانت جزءاً من اتفاق الصخيرات فإن أمريكا تنظر إليها على أن فيها العديد من الأشخاص المحسوبين على ما يعرف بـ(تيار الإسلام السياسي) وأيضاً من غيرهم الذين يعارضون أمريكا وأتباعها في ليبيا وفي المنطقة، وبالتالي فهي لا تريد بقاءهم في المشهد السياسي.
وإذا كان مجلس النواب الحالي وفيه إسلاميون، ومقاطعون ومنشقون على عقيلة صالح، ومهاجمون لحفتر، ومع ذلك استطاعت أمريكا - بالترغيب والترهيب - أن تجمع هذا المجلس من جديد تحت رئاسة عقيلة صالح وتجعله يمنح الثقة بالإجماع لهذه الحكومة التي أتت بها، وتجعله يصمت بعد ذلك ولم يعد ينشق أو يهاجم عقيلة صالح أو حفتر، إذا فعلت أمريكا بمجلس النواب الحالي ذلك فكيف بمجلس النواب القادم الذي سيكون مفصلا على مقاسها؟!
لأنه نتيجة انتخابات في ظل توجيه وهيمنة أمريكا وهيمنة حفتر في الشرق والجنوب إذ من المستبعد أن يترشح أحد مناوئ لأمريكا أو حفتر خاصة والجميع يتذكر ما حصل لعضو البرلمان سهام سرقيوة التي اختفت وقيل إنها عذبت وصُفّيت لأنها طالبت بمثول حفتر أمام البرلمان.
إن بقاء حفتر في المشهد بهذه السيطرة والقوة في المنطقة الشرقية هو ورقة ضعظ لدى أمريكا تضغط بها على الحكومة لتحقيق ما يراد منها، وتضغط بها على الأطراف الليبية الأخرى، وتخيفهم بها إلى درجة أن الكثير من الليبيين يخافون ويتوقعون أن يكون حفتر هو الرئيس القادم لليبيا بدعم من أمريكا، ولكني لا أرجح ذلك، وأتوقع أن تفاجئ أمريكا الليبيين بمجيء شخص آخر رئيساً للبلاد، وتجعلهم يفرحون بعدم مجيء حفتر، كما فرحوا بعدم مجيء عقيلة صالح رئيساً للمجلس الرئاسي فنحروا الإبل في الميادين والساحات، ابتهاجاً بهذه الحكومة والمجلس الرئاسي الذي أتتهم به أمريكا من حيث يعلمون أو لا يعلمون ولا حول ولا قوة إلا بالله.
فيا أهلنا الأعزاء في ليبيا الحبيبة: خذوا حذركم، ولا تتركوا هذه الدول الكبرى الكافرة وأتباعها يتلاعبون بمصير بلادنا وشعبنا وينهبون ثرواتنا باسم الأمم المتحدة والمجتمع الدولي والشرعية الدولية، وعودوا إلى مصدر عزكم وقوتكم، ومصدر سعادتكم في الدنيا والآخرة وهو الإسلام العظيم نظام رب العالمين، واعملوا مع حزب التحرير لاستئناف الحياة الإسلامية بإقامة الخلافة الراشدة على منهاح النبوة ففيها النجاة والخلاص من كل ما يعاني منه المسلمون.
﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ﴾
بقلم: الأستاذ محمد صادق
رأيك في الموضوع