إن من أخبث أساليب الخداع في التلاعب بمصائر الشعوب تيئيسهم بالأعمال السياسية عبر الأنظمة العميلة من إمكانية تغيير أوضاعهم. فبالرغم مما أشيع في كافة الأوساط من أن السلطة في الجزائر تعتزم هذه المرة ولو مؤقتاً إبعادَ الأحزاب التقليدية الممقوتة عن الواجهة بتشجيع (المرشحين الأحرار)، ورغم الإشارات القوية التي أرسلت تجاه الشباب وبالأخص النساء عبر هيكلة وإبراز فعاليات (المجتمع المدني) وعبر تسليط الأضواء عليها في الإعلام الحكومي ودعمها بالمال من أجل حثها على الترشح بغرض إعطاء صورة "الجزائر الجديدة" التي وعد بها الرئيس الجزائري، إذ على هذا الأساس في الظاهر تم استدعاء الهيئة الناخبة البالغة زهاء 24 مليوناً للتنافس على 407 من مقاعد البرلمان الجزائري. وبالرغم من أن قوائم الأحرار تفوقت من حيث العدد 1208 على القوائم الحزبية 1080، مما أعطى انطباعاً بأنها ستكون ربما فرصة حقيقيةً لمختلف الشرائح من خلال البرلمان القادم للتشبيب وربما للتغيير كما توهم الكثير، فإن النتائج جاءت مخيبةً ومخالفةً لكل التوقعات، سواء من حيث الإقبال أو من حيث النتائج، فضلاً عن أن العملية بكل فصولها أجريت في أجواء من السفالة اللفظية والميوعة والانتهازية البادية على المرشحين خلال الحملة الانتخابية أغلبهم من غير المعروفين في الوسط السياسي.
فقد شهدت الانتخابات البرلمانية في الجزائر يوم 12/06/2021م مقاطعةً واسعة غير مسبوقة، حيث لم تتجاوز نسبة المشاركة 20% من عدد المسجلين في القوائم الانتخابية، وهي الأدنى تاريخياً. إلا أنه بدا جلياً أن حسابات النظام هذه المرة اعتمدت بكل تأكيد على ورقة العزوف المتوقع بل المبرمج، خصوصاً وأن أغلب القوى السياسية المناوئة للسلطة فيما يسمى "القطب الديمقراطي" وعلى رأسها جبهة القوى الاشتراكية ذات الصيت الواسع خاصةً في منطقة القبائل كانت قد أعلنت مبكراً مقاطعتَها للاستحقاق، وأن قانون الانتخابات تم طرزه وفق معطيات الخارطة السياسية الجديدة بما يخدم الجهة النافذة. وقد برز ذلك فيما أدلاه الرئيس الجزائري تبون لوسائل الإعلام يوم الاقتراع نفسه بأن نسبة المشاركة ليست لديه شيئاً مهماً قائلاً: "سبق وأن صرحتُ بأن نسبة المشاركة لا تهمني، ما يهمني هو أن مَن سيفرزهم الصندوق يحوزون الشرعية الشعبية التي تمكنهم غداً من ممارسة السلطة التشريعية!". فقد بدا واضحاً أن عين الرئيس على ما سوف يؤدي البرلمانُ القادم باسم الشعب من أدوار خدمةً للسلطة لحساب الأجنبي المتحكم في البلد بغض النظر عن الشعب. وقد أسفرت النتائج بالفعل عن تصدر جبهة التحرير الوطني (حزب السلطة) النتائج بحصوله على 105 من المقاعد، فيما حازت التكتلات السياسية التقليدية المهيكَلة وأيضاً المضمونة الولاء للنظام وبالأخص حركة مجتمع السلم (حمس) والتجمع الوطني الديمقراطي على 64 و57 مقعداً على التوالي، بينما حصلت كتلة المستقلين - الذين ليس لدى أغلبهم أي سابقة في السياسة - على 78 من مجموع عدد مقاعد الغرفة السفلى للبرلمان الجزائري، وذلك بحسب السلطة الوطنية المستقلة للانتخابات التي أشرفت على الانتخابات بدل وزارة الداخلية التي كانت في السابق ترتب كل تفاصيل العملية. يذكر أن حركة البناء المنشقة عن حمس والمحسوبة هي الأخرى على إخوان الجزائر حصلت على 40 مقعداً من البرلمان. أي أن النتائج حافظت على تشكيلة الهيئة التشريعية نفسها التي كانت قائمة طوال عقدي منظومة الرئيس السابق بوتفليقة، وظهر للجميع ولكن مع جرعة جديدة من اليأس وخيبة الأمل، أن الأمور في البلد لا تزال على حالها! بل إن النظام لم يتزحزح قيد أنملة رغم الحراك الشعبي الذي انطلق في شهر شباط/فبراير 2019م بعد أن خرج الناس بالملايين إلى الشوارع.
وفي ظل أجواء سياسية غير مستقرة إقليمياً وحتى على الصعيد الاقتصادي داخلياً، يضاف إلى ذلك تداعيات أزمة جائحة كورونا على الوضع الاقتصادي الهش في بلد يعتمد كلياً على تصدير المحروقات، وتأثيرات الجائحة على عجلة الاقتصاد عالمياً، فإن حمل النظام الجزائري سيزداد ثقلا بسبب التوترات الإقليمية الناجمة عن الصراع الأمريكي الأوروبي على خيرات وثروات القارة الأفريقية الذي ازدادت حدته في الجوار خصوصاً بعد أن أوجدت أمريكا موطئ قدم لها في ليبيا وتشاد أي أوجدت منطلقاً لخلق التوترات في المنطقة باستخدام ورقة الإرهاب وبالضغوط السياسية والعسكرية، وهو ما استدعى إزاحة كل الحواجز السياسية والقانونية أمام المتنفذين في الجزائر تحديداً؛ لإقحام الجيش الجزائري في نزاعات خارج الحدود في مهام تخدم حصراً المستعمر الأوروبي. وهكذا يكون النظام الجزائري قد مرر باسم الشعب مجلساً تشريعياً سيدوم خمس سنوات يخدم به مصالح الطغمة الحاكمة ومصالح مَن وراءها من الدول الاستعمارية التي يزداد تنافسها في المنطقة شراسة.
إن إجراء الانتخابات بهذه المعطيات يعد تكريساً لاستمرارية نظام وُجد لخدمة مصالح الكافر المستعمر، فهو يتبنى شكلاً فكرة الديمقراطية الزائفة التي تجعل التشريع للبشر عبر البرلمانات التي لا تمثل الشعوب إلا وهماً مستخدماً الإسلاميين المعتدلين في كل مرة مطيةً. وليس عبثاً أن يُرخص رسمياً لقناة الجزيرة في هذا الظرف بالذات بالنشاط في الجزائر وتغطية مجريات العملية برمتها، ليلمح في مقابلة بل يصرح علناً من خلالها الرئيسُ الجزائري بإمكانية التدخل في الجوار الإقليمي عسكرياً. ولن يقطع يد الكافر المستعمر عن التدخل في البلاد الإسلامية عامةً بهذا الشكل السافر إلا دولة الخلافة الراشدة على منهاج النبوة الجامعة للمسلمين والمفعلة والمفجرة لكل طاقاتهم في مواجهة الأعداء. ﴿وَلَنْ يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً﴾.
رأيك في الموضوع