يعيش السودان حالة اقتصادية غير مسبوقة في تاريخه، من انهيار حاد في العملة المحلية (الجنيه) أمام العملات الأجنبية، إلى جانب تحقيق أعلى معدل تضخم، جعله يحتل المرتبة الرابعة عالمياً، وذلك بعد عامين من الحراك الشعبي الذي أطاح بحكومة الإنقاذ
يعيش السودان حالة اقتصادية غير مسبوقة في تاريخه، من انهيار حاد في العملة المحلية (الجنيه) أمام العملات الأجنبية، إلى جانب تحقيق أعلى معدل تضخم، جعله يحتل المرتبة الرابعة عالمياً، وذلك بعد عامين من الحراك الشعبي الذي أطاح بحكومة الإنقاذ. ومنذ أكثر من أسبوع بدأ الجنيه السوداني رحلة الهبوط إلى القاع بسرعة الصاروخ، حيث كشفت مصادر مصرفية عن ارتفاع سعر العملات ارتفاعاً جنونياً، حيث سجلت أسعار الدولار الأمريكي مستوى تاريخياً جديداً، وجرى تداول سعر صرف الدولار الأمريكي عند مبلغ 490 جنيهاً بتعاملات السوق السوداء، وبلغ سعر بيع الدولار 500 جنيه، ما أدى إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات أضعافاً مضاعفة جعلت الحليم حيران.
ليس لدى الحكومة حل تقدمه للناس بعد أن ارتمت بالكامل في أحضان الغرب الكافر المستعمر، خاضعة ذليلة لإملاءات البنك وصندوق النقد الدوليين، فلم يعد أمامها إلا القيام بما كانت تقوم به الحكومة البائدة من حملات على من يسمونهم تجار العملة، ومحاولة إلقاء كل اللوم عليهم باعتبارهم جشعين ومخربين للاقتصاد، وهي الأسطوانة المشروخة نفسها التي كان يستخدمها النظام البائد ثم تعود الأمور لسابق عهدها، وبصورة أسوأ مما كانت عليها بعد هدوء لا يتعدى أياماً معدودات. فما هي الأسباب التي أدت إلى تدهور الجنيه؟ وما هي المعالجات التي اتخذتها الحكومة لإيقاف هذا التدهور؟ وهل هذه المعالجات أوقفت التدهور، أم فاقمت الأزمة؟ ثم ما هو الحل الجذري لانهيار الجنيه السوداني؟
إن هنالك أسباباً عديدة، أدت وستؤدي لانهيار الجنيه السوداني، وأول هذه الأسباب، وأهمها، هو أن الحكومتين السابقة والحالية تطالبان بالإنتاج وتحاربانه، سواء أكان الإنتاج الزراعي، أو الصناعي، أو الحيواني، وذلك بوضع العراقيل والجبايات الباهظة، وتعتمد بالكلية على التمويل الخارجي، تنتظر منه العون والسند، والغرب الكافر المستعمر همه الأول والأخير هو أن يأخذ ثروات هذا البلد الغني بثرواته الظاهرة والباطنة عبر القروض الربوية المهلكة، فيملي على الحكومة شروطاً قاسية تتمثل في رفع أسعار السلع والخدمات، باسم رفع الدعم، وتخفيض قيمة الجنيه السوداني، وتحريره أمام عملاتهم، ثم يمنّيهم، ويَعِدهم، وما يعدهم الغرب المستعمر إلا غروراً.
ومن الأسباب أيضاً أن هنالك عجزا كبيرا في الميزان التجاري يتراوح بين 4 إلى 5 مليار دولار، أي أن استيراد السلع أكبر مما نصدر. وكما ذكرت فإن الدولة هي السبب الرئيس في هذا العجز، فصادرات السودان إما منهوبة، وإما مغيبة عمداً! فالذهب الذي ينتجه السودان بالأطنان لا يعود ريعه لأهل السودان، وإنما يذهب لجيوب معينة، وشركات معينة، وقل مثل ذلك في الصمغ العربي، والسمسم، والفول السوداني، وغيرها من الصادرات. أما الثروة الحيوانية فالجميع يعلم كيف أن عشرات البواخر المحملة بالماشية عادت من السواحل السعودية لعدم استيفاء الإجراءات الصحية، وهو أمر تكرر مرات ومرات دون علاج.
ومن الأسباب كذلك ما قامت به الحكومة في العام الماضي من شراء أكثر من 335 مليون دولار من السوق السوداء لدفع تعويضات أسر ضحايا المدمرة كول في سواحل اليمن عام 2000م، وأسر ضحايا تفجير سفارتي أمريكا في دار السلام ونيروبي في العام 1998م، وهذا الإجراء أشعل سوق الدولار الأسود. هذه وغيرها من الأسباب هي ما جعل الدولار يتسيّد الموقف في ظل انهيار كامل للعملة المحلية (الجنيه).
أما الحلول التي قامت بها الحكومة مدعية أنها تسعى لكبح جماح الدولار، وإنعاش الاقتصاد السوداني، فهو ما سمي بالإصلاح الاقتصادي الكلي، وهو في حقيقته خضوع كامل، وخنوع شامل لإملاءات صندوق النقد الدولي التي تمثلت في رفع أسعار الوقود بمتوالية هندسية. فعندما سقط نظام الإنقاذ كان سعر لتر البنزين 7 جنيهات، ووصل سعره الآن إلى 151 جنيهاً، وبالرغم من ذلك فلا تزال الحكومة تدعي أنها تدعمه! إضافة إلى رفع أسعار الكهرباء لأكثر من 600%، والخبز أكثر من 500% وما زالت تدعي أنها تدعم هذه السلع والخدمات (الوقود والكهرباء والخبز)، أي أنها ستزيد من أسعارها مستقبلاً إن بقيت في السلطة، وتبعاً لذلك زيدت أسعار السلع والخدمات، وما زال الحبل على الغارب.
وأيضاً من الحلول التي قامت بها الحكومة ما سمي بالمزاد في النقد، وهو طرح كمية من الدولارات في السوق لشراء سلع محددة، وقد بدأت هذه الفكرة بقيام أول مزاد في 26/05/2021م، شارك فيه عشرون مصرفاً، وتم عرض مبلغ 40 مليون دولار، تم بيع 16 مليون منها فقط، حيث استبعد أكثر من 55% من الطلبات بحجة أنها غير مستوفية الشروط، ثم ألحق بمزاد ثان يوم الثلاثاء 01/06/2021م، خصصت فيه مبلغ 43.4 مليون دولار، وكان قد تم بيع الدولار في المزاد الأول بمبلغ 420 جنيها للدولار الواحد، وفي المزاد الثاني بمبلغ 425 جنيها للدولار، وبالرغم من ذلك ظلت السوق السوداء سيدة الموقف، وصار الفارق بين السعر التأشيري للبنك المصرفي، وبين السوق السوداء كبيراً، وظلت المصارف تلهث وراء السوق السوداء حتى أعيتها، فرفعت الراية البيضاء، ما جعل الحكومة تلجأ كما ذكرنا للحل الأمني الذي جربه النظام البائد عشرات المرات، وكان فاشلاً، بل إن الحكومة الحالية جربته سابقاً، وفشلت فيه، ثم تكرر فشلها مرة أخرى، وأظن أنها تعلم ذلك ولكن هي محاولة منها لتضليل الناس بأنها جادة في إيقاف انهيار العملة المحلية وهي كاذبة.
إن الحل الجذري لوقف انهيار الجنيه السوداني يتمثل في الآتي:
أولاً: فك ربط الجنيه السوداني بالدولار وجعله يستند إلى الذهب، والحمد لله فإن السودان يعتبر أرض الذهب، وتُستخرج منه عشرات الأطنان سنوياً، فهذا يجعل للعملة قيمة ذاتية لا تنخفض بالمضاربات، ولا بالسياسات الدولية.
ثانياً: قطع العلاقة مع الصناديق الربوية، وعدم التعامل بإملاءاتها، ففي ذلك وقف لهدر ثروات البلاد، واستجابة لرب العباد القائل سبحانه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾.
الناطق الرسمي لحزب التحرير في ولاية السودان
رأيك في الموضوع