إنّ صمود أهل غزة الباسل أمام العدوان الهمجي لدولة يهود لهو دليل واضح على قدرة المسلمين على خوض أعظم المُواجهات مع قوى الكفر والعُدوان في معارك أمتهم في المستقبل، لا سيما وأنّ هذا الصمود يتعلق بشريط ضيّقٍ من الأرض مُحاصر مُنذ سنوات من جيش دولة يهود المتخم بترسانة عسكرية متطورة، ومن نظام السيسي من جهة سيناء.
وهذا الصمود المتميز لغزة أفرز حقيقتين استراتيجيتين وهما:
1- هُزال وهشاشة كيان يهود، وإمكانية إلحاق الهزيمة المحققة المحدقة به.
2- حقيقة وجود قوة هائلة كامنة لدى المسلمين قادرة على التغلب على أعتى القوى بأقل الإمكانيات.
ونجاح القيادة العسكرية في قطاع غزة بالتصدي لجبروت وعجرفة القوة العسكرية لكيان يهود أوجب عليها القيام بأعمال سياسية مؤثّرة تتناسب مع حجم تلك الإنجازات المتحققة.
والاستثمار في الأعمال السياسية له شكلان:
1- استثمار في الدول والحكومات. 2- استثمار في الشعوب والتنظيمات.
وقد يصعب - إنْ لم يكن من المستحيل - الجمع بين ذينك الاستثمارين لوجود التناقض التام بينهما، ولتعذر الجمع بينهما بسبب وجود هُوة سحيقة تفصل بينهما.
فكل الدول والحكومات اليوم هي دول وحكومات معادية للإسلام وللشعوب الإسلامية، وجميع حكامها أجراء وعملاء وحلفاء للكافر المستعمر، ولا يوجد ميزة فضل لأحدهما على الآخر، فكلهم من الجنس نفسه ومن الطينة نفسها، ولا يُمكن الوثوق بأيٍ منهم.
فمصر ودول الخليج كتركيا وإيران وباكستان سواء بسواء في التآمر على قضايا المسلمين، ودول المُوالاة كدول الممانعة، ولا فرق بين قيادات هذه الدول في الخيانة والعمالة عن مثيلاتها بشيء سوى بالأسماء والشعارات.
ولذلك كان من أسوأ ما فعلته قيادة حماس لاستثمار استبسالها العسكري أنْ تكيل المدح لحكام دول ما يُسمّى بمحور الممانعة كإيران وسوريا التي ولغ جنودهما بدماء أهل سوريا، فذبحوا وعذّبوا الملايين، وهجّروا نصف أهل سوريا، ودمّروا البلاد على رؤوس أهلها.
وكان من أفدح الأخطاء التي وقعت فيها قيادة حماس الاستثمار السياسي الذي يتعلق بالتقرّب من السلطة الفلسطينية التي وقفت كتفاً إلى كتف بجانب الاحتلال في قمع المسيرات المؤيدة لغزة أثناء عدوان يهود عليها.
وقد كشف ناصر القدوة الذي فُصل من حركة فتح مؤخراً بأنّ وظيفة السلطة الفلسطينية لا تقتصر فقط على التنسيق الأمني مع كيان يهود، بل هي أكبر من التنسيق بكثير، فالكتائب الفلسطينية الأمنية التابعة للسلطة الفلسطينية تتلقى فعلياً تعليماتها مباشرة من جيش الاحتلال.
فالسلطة الفلسطينية من ناحيةٍ أمنية أصبحت تعني الاحتلال بكل معنى الكلمة، والتعامل معها يعني التعامل مع الاحتلال، لذلك كان واجباً على حماس أنْ تعمل على تقويض السلطة وإزالتها من الوجود لا التعامل معها، وإنّ خروج حماس من المعركة فائزة منحها فرصة ذهبية لإسقاط السلطة الفلسطينية التي هي الآن في أضعف حالاتها.
وأمّا تقرب حماس من المجتمع الدولي وأمريكا من خلال التصالح مع السلطة فهذا لن يُفيدها في شيء، بل هو مقتل لها، ربما يجرها إلى مستنقع المفاوضات مع كيان يهود في المستقبل، وتساؤل خالد مشعل: لماذا لا تتعامل أمريكا معنا كما تتعامل مع حركة طالبان؟ يُجاب عليه بأنّ أمريكا تعاملت مع طالبان من موقف الضعيف المضطر، وليس من موقف القوي المتغلب، فطالبان لم تعترف بسلطة الحكومة الأفغانية العميلة لأمريكا كما اعترفت حماس بسلطة محمود عباس، فلو أنّ حماس قاطعت السلطة الفلسطينية، ولم تعترف بها، وعملت على إلغاء وجودها، وإلغاء منظمة التحرير (التسليم والتفريط) الفلسطينية التي تنازلت عن ثمانين بالمائة من فلسطين ليهود من دون مُقابل، ولو أنّها تصدرت هي الموقف الفلسطيني، وأسّست كياناً سياسياً بديلاً عن كيان المنظمة، لو أنّها فعلت ذلك لاتصلت بها أمريكا واتصل بها المجتمع الدولي، ولكانت قد اضطرت أمريكا إلى مُفاوضتها وهي في موقف قوة كما فعلت مع حركة طالبان والتي كانت في موقف قوة.
ومع أنّ قبول حركة طالبان التفاوض مع أمريكا هو خطأ سياسي كبير، لكنّه لا يُقارن بخطأ حماس التي تصالحت مع سلطة عميلة، فأضعفها هذا التصالح وأهدر ما أنجزته من مكاسب.
وأمّا الخطأ الجسيم الثالث في الاستثمار السياسي لحركة حماس بعد جولة الحرب الأخيرة في قطاع غزة فيتمثّل في زيادة منسوب تعاونها مع نظام الطاغية السيسي الذي لا يؤمَن له جانب، والذي خبرته حماس بنفسها، كما خبرت غدره وجرائمه وخيانته، فقد باتت صور الطاغية السيسي للأسف تُرفع في شوارع غزة في هذه الأيام، وهو الذي ارتكب مذبحة رابعة بدمٍ بارد، وأطاح بحكم الإخوان في مصر، وما زال يجثم على صدور المصريين بكل جبروت وينكل بهم.
فهذه الأخطاء في الاستثمار السياسي سوف تُضعف حماس تدريجياً، وتُقوي حركة فتح والسلطة، وتجعل من السلطة العميلة في مستوى مُكافئ لحماس، مع أنّ الفرصة كانت مُواتية لحماس للتخلص منها نهائياً.
وبسبب هذه الأخطاء أيضاً تمّ تلميع الصورة القبيحة لبشار الأسد، وتمكين حكام إيران من زيادة نفوذهم وإجرامهم في بلاد الشام.
وبسبب هذه الأخطاء أخيراً فقد تمّ منح نظام السيسي غطاءً شرعياً لمد نفوذه في قطاع غزة، ولضخ إكسير الحياة في كيان دولته المتداعي.
إنّ الاستثمار السياسي الصحيح يجب أن ينحصر في الشعوب ولا يتعداها، وهو الاستثمار الوحيد الذي يبني القاعدة الشعبية الدائمة الحامية لمكتسبات الانتصار.
رأيك في الموضوع