تفجرت الأزمة المالية الكبرى عام 2008 بسبب ما عرف بأزمة الرهن العقاري والتي أدت إلى فقدان الأسواق العالمية عموما والأمريكية خصوصا عشرات التريليونات من الدولارات وأدت إلى إغلاق عدد كبير من البنوك وإفلاس شركات عظمى على مستوى العالم. وكان هذا الانهيار محتما بسبب تضخم ما عرف بالمال الوهمي الافتراضي مقابل المال الحقيقي. حيث إن المال الوهمي قد نما وتضخم من خلال أسواق الأسهم المالية والمال الربوي خاصة ما كان منه متعلقا بالقروض العقارية. وكان أحد أسباب تفجر الأزمة توسع البنوك بالإقراض الربوي من باب التيسير الكمي لتريليونات من الدولارات التي ضخها البنك الفيدرالي على إثر الأزمة السابقة والتي عرفت بفقاعة الإنترنت. أما السبب الجوهري للأزمات المالية التي بدأت تعصف بالعالم الذي تسيطر عليه الرأسمالية فيعود لأسباب عدة أهمها: فصل الدولار ابتداء، ثم العملات العالمية عن نظام الذهب في عام 1972، ثم فصل النمو المالي (الدولار في أمريكا) عن النمو الاقتصادي عام 1984 فيما عرف بقوانين فك الارتباط deregulation والذي سمح للمال أن ينمو بنسب أعلى بكثير من النمو الاقتصادي. وقد أدى هذان السببان إلى الزيادة الحادة في أسعار الأسهم في الأسواق المالية، والتوسع في الإقراض الربوي والذي أدى بالتالي إلى وجود ثروة هائلة من المال لا يقابلها لا ذهب ولا منتوجات حقيقية. فكان لا بد من حصول أزمات تؤدي إلى تبخر المال الوهمي وإغلاق مؤسسات وأعمال كثيرة تعتمد على هذا النوع من المال وهو ما حصل خلال أزمة عام 2008 والتي لا تزال آثارها قائمة حتى الآن.
لقد قادت الأزمة المالية الخانقة الكثيرين للبحث عن مخرج من مثل هذه الأزمات للتقليل من خطورتها وحفظ أموال الناس بشكل عام. وشملت الحلول التي طرحت تغيير شكل النظام الرأسمالي وسد الثغرات، وتقنين عملية دخول الشركات لأسواق الأسهم. ولعل أهم ما تمخضت عنه الحلول التي طرحت للتخفيف من آثار الأزمات المالية حتمية الحدوث، هو ظهور العملات المشفرة الرقمية خاصة البتكوين والتي ظهرت رسميا في شهر 8 من عام 2008 وهي الفترة التي كانت الأزمة المالية تنذر بأشد شرورها. وجاءت فكرة البتكوين لتوفير بديل للتعامل المالي بعيدا عن النقد المتداول رسميا والذي ثبت أن أغلبه مال وهمي لا قيمة له يمكن أن يتبخر خلال لحظات نتيجة ربطه بأسواق المال الوهمية وعدم استناده لقاعدة الذهب تحديدا. ففي 18/8/2008 تم تسجيل أول شركة تحمل اسم بتكوين في أمريكا. وبدأ التعامل الفعلي بهذه العملة الرقمية المشفرة في أول عام 2009. واقترحت هذه العملة لتكون أداة لشراء بضائع من مؤسسات تقبل هذه العملة. فمثلا كانت أول معاملة جرت باستخدام البتكوين هي عملية شراء بيتزا من شركة بابا جونز بقيمة 10 آلاف بتكوين أوائل سنة 2010. وحين ظهرت البتكوين في الحقيقة لم تكن مسجلة أو معرفة كنقد، ولكنها كانت معرفة كأداة تبادل سلع. وكان أغلب استعمالها لشراء سلع من متاجر صغيرة. وبقيت على تلك الحال حتى عام 2013 حيث بقي سعر البتكوين في المتوسط أقل من 10 دولارات. ولم يتم تداوله في الأسواق المالية. وبقي محصورا في عملية الحصول على البتكوين من خلال منظومة البرامج المشفرة المعروفة بأنظمة بلوكتسين. ويظهر الرسم البياني التالي أسعار البتكوين منذ عام 2009 وحتى عام 2013.
إلا أنه وبعد عام 2013 بدأ التداول بالبتكوين على أنه سلعة لها قيمة وهمية افتراضية يمكن أن تصل كما هو الحال في الأسهم لعشرات آلاف الدولارات، حيث إنها لا ترتبط بأي رابط مطلقا، كما هو مبين في الرسم البياني من عام 2014-2020.
ومن أهم ما يميز هذا النوع من السلع أنها لا تشكل نقدا أو عملة مالية بأي شكل. وذلك أن النقد مرتبط ارتباطا عضويا بالدولة أو الكيان السياسي. فهو من معالم وجود الدولة أيا كانت الدولة. وذلك بيّن من أمور عدة؛ أولها أن الدولة هي مسؤولة مسؤولية مباشرة عن تحديد سعر العملة أي النقد سواء فيما يتعلق بالقيمة الشرائية أو قيمة الصرف العالمي. ثم إن الدولة هي مسؤولة عن ضمان النقد المتداول بين أيدي الناس. فلا يصح بأي حال من الأحوال أن يختفي النقد من الدولة إلا إذا اختفت الدولة نفسها كأن تبدل النظام فيها أو تم احتلالها، إذ إن النقد مرتبط وجودا وعدما بالدولة. أما ما سمي بالنقد المشفر مثل البتكوين فمن الممكن أن يختفي جملة وتفصيلا لمجرد خلل في المنظومة الإلكترونية التي تحتفظ به، وقد حصل هذا عدة مرات لنظام بتكوين لأسباب فنية، ولو لعدة ساعات فقط، فخلال العطل الفني توقف تداول البتكوين كاملا. ثم إن النقد التابع للدولة مضمون من الدولة ومؤسساتها، فلو أنه تمت قرصنة بنك مرخص من الدولة وفقد كثيرا من أموال الناس فهو ضامن لهذه الأموال بقوة القانون. أما في حالة البتكوين فمن يتم قرصنة حسابه فإنه يخسر ما لديه من مخزون ولا يوجد أي طرف مسؤول عن ممتلكاته. لذلك فإن العملة المشفرة وعلى رأسها البتكوين لا ينطبق عليها مصطلح النقد والذي هو أداة للحصول على السلع والخدمات بقيمة تبادلية يتم تحديدها بقانون خاص بها تصدره الدولة ذات السيادة.
وقد تعاملت المؤسسات المالية الكبرى في العالم مع نظام العملات الرقمية المشفرة مثل البتكوين على أنها سلعة وليست نقدا، ولهذه السلعة قيمة افتراضية يمكن رفعها أو خفضها بناء على العرض والطلب الحقيقي، أو بناء على القيمة الاسمية الافتراضية والتي تخضع للمضاربات الآنية. فقد عملت مؤسسة نيويورك للتبادل المالي (NYSE) على إدخال البتكوين ضمن قائمة السلع المتبادلة في سوق نيويورك المالي في شهر 6 عام 2019. ومنذ ذلك الوقت بدأت أسعار البتكوين بالتذبذب الحاد والصعود الحاد بناء على ما يجري من مضاربات في السوق المالي. فمثلا حين أعلنت شركة تسلا للسيارات الكهربائية عن استثمار ما يزيد على 1.5 مليار دولار في البتكوين وصل على إثرها سعر البتكوين إلى ما يزيد عن 70 ألف دولار، ثم عاد للانخفاض بعد أن بيعت كمية كبيرة من البتكوين من الجهة المستثمرة نفسها.
وهنا لا بد من ملاحظة أن نظام البتكوين للعملات المشفرة تم اقتراحه ابتداء لعلاج الأزمات المالية الناشئة عن تضخم المال الوهمي كما حصل عام 2008. إلا أن هذا النظام عاد وارتكس في حمأة الكارثة المالية نفسها، وأصبح نظاما وهميا صرفا، ما إن يصل إلى درجة الانفجار حتى يهوي إلى قاع سحيق بكل ما توهم الناس أنهم يملكونه.
من هنا كان الحامي الحقيقي لأموال الناس ليس إلا نظاما ماليا حقيقيا يستند إلى مرجع حقيقي ويصدر بناء على قانون حقيقي عادل. وهذا لا يتوفر إلا في دولة تصدر قوانينها عن نظام عادل قائم على أساس متين، وهي دولة الخلافة التي تصدر قوانينها جميعها استنادا إلى الشرع الذي يأمر بالعدل والإحسان. ودولة الخلافة لا تصدر النقد إلا مستندا إلى الذهب والفضة وهي بذلك تمنع وجود مال وهمي، وتحمي أموال الناس، وتعمل على وفرة الإنتاج وزيادته بشكل يؤدي إلى حفظ ثروة الذهب حتى لا تضيع جراء غلاء الأسعار والتضخم المعهود في النظام الرأسمالي البائس.
رأيك في الموضوع