رسم الإعلام صورة قاتمة لمستقبل تونس السياسي في الذكرى العاشرة لاندلاع ثورة الأمة من تونس وقد ركزت الـ"بي بي سي" على هذا التشاؤم لدى المعلقين على الشأن السياسي التونسي حيث أوردت: لم يبد كثير من المعلقين تفاؤلاً حيال تطور الأوضاع السياسية والاقتصادية في تونس، إذ أشاروا إلى "الصراعات المتواصلة على السلطة" و"تراجع دولة القانون"، بينما انتقد البعض الثورة التونسية متهمين إياها بالتسبب في "الفوضى" والانهيار الاقتصادي. نناقش هذه الصورة بالإشكاليات التالية:
أولا: ما حقيقة الأوضاع السياسية والاقتصادية في تونس؟
ثانيا: هل صحيح أن الصراعات المتواصلة وتراجع دولة القانون هي المسئولة عن سوء هذه الأوضاع؟
ثالثا: هل أن الثورة هي المسؤولة عن هذا الفشل؟
رابعا: هل أن هذه الأسباب غابة من التضليل لحجب شجرة الاستعمار اللعينة المتسببة في تردي تونس في الفوضى السياسية والانهيار الاقتصادي؟
أولا: بعد عشر سنوات من انطلاق الثورة لا ينكر أحد الفوضى السياسية والانهيار الاقتصادي اللذين باتت تعيشهما البلاد. فظاهر أن البلد تتجاذبه قوى سياسية تفتقر إلى إرادة الحكم وإرادة رعاية شؤون الناس. فالسلطات الثلاث زيادة على تنافرها المعلن تقر بأن لا أحد منها يمتلك قرار الحكم. رئيس الدولة قيس سعيد يصرح "أشعر أنني من كوكب آخر" في أحسن ترجمة لغيابه عن الحكم ومشاغل الناس، ورئيس البرلمان راشد الغنوشي في حوار مع القناة الوطنية يسأل محاور القناة "هل تعلم أنت من يحكم في تونس أنا لا أعلم من يحكم" في تعبير صريح عن غياب الحكم في الدولة. أما جلسات مجلس النواب فقد تحولت في الغالب إلى عكاظيات بين زاهد في شأن الناس ومزايد بها وأغلب القوانين التي تمخضت عنها هي قروض لتمويل الميزانية أو النفقات العامة. أما الحكومة فكسابقاتها في دوامة أمواج قرطاج وأمواج باردو تنتظر الغرق ليتم استبدالها في توقيت معين، فالاستعمار ليس بحاجة لحكومة رسمية دائمة لإدارة تونس، والمشيشي اليوم لم يحلحل عقدة واحدة من عقد الناس وإن حاول في الكامور فلأجل عيون الشركات الناهبة، وأما وعوده لتطاوين فستلتف على رقبة حكومته وتأتي بأجلها كما التفت قضية بتروفاك في قرقنة برقبة حكومة الصيد.
والوسط السياسي خارج الحكم فهو كذلك مكون من أحزاب كرتونية لا بديل لديها عن الموجود في الحكم سوى الشعارات الجوفاء ولا خطة لها ولا تأصيلا لتحقيق رغبات الناس الذين ثاروا على هذا النظام.
أما الوضع الاقتصادي فكل المؤشرات منذ الثورة تدل على أنه موكول لجاذبية خارجية تهوي به نحو أزمات بعضها فوق بعض ينتهي نفقها المظلم إلى الإفلاس حتى تفقد الدولة والشعب سلطتهما كليا على ثروة البلد ومؤسساته المالية فيكون مرتعا رخيصا لمزيد من الشركات العالمية الناهبة ومزيد من الاختراق السياسي. أما تفاؤل الطبقة الحاكمة بأن النجاح في الانتقال الديمقراطي سيليه إقلاع اقتصادي، فهذا كذبة مزدوجة، إذ لا يهتم الناس بالانتقال الديمقراطي وإنما يهمهم خروجهم من أزمات الظلم والنهب والبطالة والغلاء والفساد، كذلك لا يصدقون كذبة الإقلاع الاقتصادي وهم يرون السقوط الجنوني ولا ثقة لهم بحكامهم.
ثانيا: إن المعلقين يرجعون سبب هذه الفوضى السياسية والتدهور الاقتصادي إلى الصراعات المتواصلة على السلطة وتراجع دولة القانون. لكن ما حقيقة الفوضى السياسية والتدهور الاقتصادي حتى نعلم أسبابهما؟
إن الفوضى السياسية مأتاها أساسا غياب أسس عقائدية لعملية الحكم ورعاية شؤون الناس لتوحيد موقف أطراف الحكم والمعارضة حول كليات الحكم والرعاية لتكون الخلافات بينهم في الاجتهاد لتحقيق تلك الكليات. وتكون هذه الأسس العقائدية وكليات الحكم والرعاية معتقدة ومقبولة لدى الشعب فلا يقع تقسيمه ولا المزايدة بمواقفه لأغراض ثلة سياسية معينة فتحلّ الفوضى السياسية. وإذا نظرنا في الصراعات المتواصلة على السلطة في حكم تونس نجد أن مختلف الأطراف المتصارعة كأحزاب وهيئات ومنظمات تعتقد في إبعاد الإسلام عن الحياة السياسية وجعل الحكم ديمقراطيا وجعل الاقتصاد رأسماليا مع تجاذبات بين من يبدأ كلامه بالبسملة، وبين من يعتبرها مظهرا للدولة الدينية، وبين من يتمسك بديمقراطية هجينة صنعت في تونس، وبين من يسعى إلى ديمقراطية رئاسية، وبين من ينسب إلى المنظومة القديمة الدكتاتورية، وبين من يدعي الثورية. وفي الاقتصاد بين من يسعى إلى تحرير الدولة من ثقل القطاع العمومي بخصخصته كليا ومن يتدرج في هذا التفويت، وبين من يتمسك ببعض مظاهر اشتراكية الدولة، ومن يدعو إلى صندوق الزكاة، ومن يتهمه بتهديد الدولة المدنية الجمهورية. في حقيقة الأمر هم متشاكلون في الاعتقاد نفسه وفي كليات الحكم ذاتها. والغريب في الأمر أن الجميع يعلن انتماءه لعقيدة الإسلام لكنه حتى يصل إلى الحكم لا بد أن يحقق هدف الاستعمار في البلاد الإسلامية! فسبب الفشل السياسي ليس الصراع على السلطة إذ إن هذا الصراع تحت إكراهات الاستعمار ينقلب تآلفا وتناغما كما وقع بين النهضة ونداء تونس، أي بين الغنوشي والسبسي، وكما وقع بين النهضة وقلب تونس وائتلاف الكرامة بعد العداوة السابقة، وكما يمكن أن يقع بين الغنوشي وعبير موسى نفسها.
أما السبب الثاني؛ أن هذه الفئة الحاكمة التي أشرف الاستعمار على صياغة أفكارها ومشاعرها يختلف معها الشعب التونسي المسلم، فهو وإن تأثر كثيرا بسياسة تجفيف منابع الإسلام لكنه يدب فيه الوعي على السياسة الاستعمارية وعلى دور الفئة الحاكمة في ترسيخها، وهو لا يهمه الانتقال الديمقراطي ولا تحرير الاقتصاد، بل يهمه أن ينعم بثرواته التي تنهب من الاستعمار وأن يكون توزيع الثروة عادلا لا تجوّع الغالبية (خاصة المناطق الداخلية) وتكدس الثروة بيد فاسد ظالم، بل يحن إلى حكم عادل كحكم عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكحكم عمر بن عبد العزيز رحمه الله، لذلك يرفض حلول السياسيين ويعاديهم ويحملهم مسؤولية الفوضى والتدهور الاقتصادي.
ثالثا: إن الثورة التونسية، بقدر ما قيل عنها أنها أبهرت العالم في بدايتها بقدر ما بلغها من التشويه من جراء ما آلت إليه أحوال الناس بعد مرور السنين، وها هي اليوم في ذكراها العاشرة متهمة أنها السبب في الفوضى السياسية والتدهور الاقتصادي. لكن الثورات على الظلم والتخلف كي تنجح لا بد أن تخلّص الدولة من تبعيتها للاستعمار وعملائه وأن تبني دولة متحررة تنهض بفكر تحريري يبني منظومة قيمية جديدة وشكلا جديدا للحكم، وهذا دور المفكرين والسياسيين، لكن الثورة التونسية حين أزالت سلطان بن علي لم يبلغ عندها الوعي حينها أن الظلم والتخلف في الحقيقة نتاج لسلطان استعماري تحكّم منذ زوال سلطان الإسلام على تونس في الدولة لتكون أداة استعمار وقهر للشعب تحارب عودة سلطانه الحقيقي وتنهب ثرواته وتجعله تابعا لها عاجزا على الاعتماد على نفسه. فهندس الاستعمار الثورة المضادة، وجاء بطبقة سياسية لحافها الثورة وصميمها الاستعمار، يتغنون بصداقة الاتحاد الأوروبي وأمريكا وصندوق النقد الدولي وهم أعداء هذا الشعب الحقيقيون. فبقي الشعب يبحث عن استكمال ثورته متيقنا من فشل الفئة الحاكمة وعداوة الاستعمار. فالثورة ليست مسؤولة عن هذه الفوضى السياسية وتدهور الاقتصاد، لكنها تصنع وعيها وتحسم مع القيادات الخائنة وتبحث وسط التعتيم على القادة الحقيقيين لمواصلة سياقها وتحقيق أهدافها.
رابعا: إن مزاعم الـ"بي بي سي" والمعلقين على الشأن السياسي التونسي برسم هذه الصورة الكيدية ضد الثورة وتحديد أسباب الفوضى السياسية والتدهور الاقتصادي يريدون أن يبعثوا اليأس في التغيير الحقيقي الذي ينشده الشعب التونسي ونسوا أو تناسوا أن عنوان الثورة كان "إسقاط النظام". ومفهوم هذا الشعار هو إقامة نظام بديل، ويفهم من سيطرة حركة النهضة منذ 2011 على نتائج الانتخابات وتراجع موقف الشعب منه لما رآه من تطبيع مع النظام الساقط أن الشعب يتوق إلى نظام الإسلام، وما حرب الاستعمار على حزب التحرير في تونس وما منعه له من النشاط إلا دليل آخر على أن البديل للنظام الساقط هو نظام الإسلام، فمشروع حزب التحرير هو خلافة راشدة كخلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما.
في الأخير نجزم أن الحل للفوضى السياسية والانهيار الاقتصادي ليس في المصالحة الوطنية الممجوجة التي يعمل الاستعمار على الترويج لها حتى يضمن استمرار نفوذه لمهلة أخرى، ولا في إعادة النظام الساقط وأزلامه من خلال عدالة انتقالية يشرف عليها المستعمر لتعويض الضحايا بعد إذلالهم وإعادة تدوير المجرمين بعد تبييضهم وإعادتهم للنسيج السياسي والاقتصادي، ولا في إصلاحات هيكلية تفرضها القوى الاستعمارية للقضاء على المقومات الاقتصادية المتبقية، هذه كلها ليست حلولا لثورة تونس، بل الحل الوحيد هو نظام جديد يكون التخطيط فيه لنهضة البلاد والعباد نابعا من أهل البلد حين يفتكّون سلطانهم من الاستعمار فيصبح تخطيطهم وفق نظرتهم للحياة وهي أن الله خالق هذه الحياة وخالقهم قد استخلفهم في هذه البلاد ليقيموا الحق والعدل وأنهم أصحاب رسالة عالمية وليسوا عبيدا لكافر مستعمر اعتدى عليهم وأذلهم وتحكم في مقدراتهم عبر تخطيطه لتونس ضمن خطته لرؤوس أمواله وحسب نظرته للحياة، فالثورة في تونس تتجه اليوم لتمحيص البدائل والمشاريع والقادة، وقد تهاوت كل المزاعم والرويبضات وبقي مشروع الخلافة الراشدة هو الأمل المنشود لأهل تونس وبقي حزب التحرير هو القائد الظاهر صدقه وتخطيطه لقلع الاستعمار، ونصرةٌ صادقة من أهل القوة يرضى عنها ساكن السماء والأرض تضع المشروع الرباني قيد التنفيذ.
فشجرة الإسلام هي الخير الذي يريد الاستعمار حجبه على أهل تونس بغابة الشجر الخبيث. ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ * تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ﴾.
بقلم: الأستاذ سعيد خشارم
رأيك في الموضوع