في محاولةٍ استهدفت إقناع الإدارة الأمريكية بشطب اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، خصص رئيس وزراء الحكومة الانتقالية حمدوك، زيارة لأمريكا لمدة ستة أيام كاملة، اجتمع خلالها ببعض المسؤولين الأمريكيين، وقال حمدوك في المؤتمر الذي نظمه مركز أبحاث المجلس الأطلسي بعد اجتماعاته هذه، إن "الجزء الكبير كان بالطبع مسألة سحب السودان من لائحة الدول الداعمة للإرهاب". (الجزيرة نت 06/12/2019م)، ويرى حمدوك أن شطب السودان من هذه القائمة هو سر نجاحه في الحكم، ويعتبره أولوية، فقد ورث الرجل، بحسب قوله في المؤتمر، ديوناً متراكمة، تصل لما يقرب من 60 مليار دولار، وأن أي عملية لإعادة هيكلتها، مرهونة بشطب السودان من القائمة السوداء. فهل حصل حمدوك على مبتغاه، أم أن الأمريكان استخفوا به، وأملوا عليه شروطاً أخرى قاسية مع بعض السموم التي يخيّل إليه أنها الدسم؟!
بداية لم يلتق حمدوك الرئيس ترامب، ولا نائبه، ولا وزير خارجيته، كأن الجليد قد تساقط على رؤوس كبار المسئولين في الإدارة الأمريكية مع هذه الزيارة، حيث ولوا ظهورهم، ولم يحظ رئيس الوزراء بلقاء أي منهم! إلا أنه اجتمع مع وكيل وزارة الخارجية، تيبور ناجي، وديفيد هيل وكيل وزارة الخارجية للشؤون السياسية، وستيفن منوشين وزير الخزانة الأمريكي، ومارك غرين المدير العام لوكالة المعونة الأمريكية، وقد أعربوا (نفاقاً بالطبع) عن إعجابهم بالتغيير الذي حدث في السودان، وطفقوا يهنئون حمدوك على نجاح الثورة! ووعدوه بأنهم سيجرون مشاورات داخل الحكومة الأمريكية، للنظر في كيفية تقديم الدعم للسودان، والخطوات اللازمة لإسقاطه من قائمة (الإرهاب). غير أنهم أعملوا العقلية الرأسمالية في التفاوض؛ وهي الحصول على أكبر قدر من المكاسب لبلادهم، فأجمعوا على تنفيذ شروط سابقة مفروضة على السودان، وأخرى جديدة، منها تحقيق سلام نهائي بين الحكومة والجماعات المسلحة، وإحراز تقدّم في خريطة الطريق السياسية لجنوب السودان، والتحول الديمقراطي، وتعويضات ضحايا المدمرة كول وغيرها. لكن حمدوك لم يفهم أن الأمريكان سوف يماطلون في رفع اسم السودان من قائمة (الإرهاب)، وأن المسئولين الأمريكيين لا تغرب عن أعينهم مصالح بلادهم، وبخاصة في القارة الأفريقية، في لقاءاتهم، الرسمية والجانبية.
إن حمدوك مصمم على شيء واحد، هو إقناع الإدارة الأمريكية بإزالة السودان من قائمتها السوداء، وكشف أن لديه فريق تفاوض في واشنطن يجري محادثات مع الإدارة الأمريكية حول الأمر. إلا أن أمريكا تعاملت معه في هذه الزيارة بعقلية (لننتظر ونرى)، وسارت في وضع العراقيل أمامه، وذلك لأن أمريكا لا تعجبها التحركات الجماهيرية الذاتية في بلاد المسلمين عموماً، وفي السودان خاصة، إذ إنها أطاحت بعميلها المخلص البشير، الذي أجاد دوره في فصل جنوب السودان، وإضعاف السودان كله، ورهن اقتصاده لصناديق وشركات الاحتكارات العالمية، لكن البشير فشل في إسكات الشارع فلم تعبأ بسقوطه. والآن تعمل أمريكا لتثبيت نفوذها عبر أداتها في الداخل، وهي الجيش، وليس عبر مدنيين موالين لأوروبا. لذلك فهي تدير ظهرها، وترفع عِصيّ غليظة في وجه حمدوك؛ وبخاصة عصا الإرهاب، وكان مجلس الشيوخ قد تبنى قراراً جاء فيه "إن عملية النظر في إزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، ورفع العقوبات المتبقية على السودان، أو تطبيع العلاقات مع حكومة السودان، ستظل معلقة". وقد أوردت صحيفة الشرق الأوسط 04/12/2019م موقف الإدارة الأمريكية من قضية الإرهاب على لسان مساعد المبعوث الأمريكي الخاص إلى السودان، هدسون قائلاً: (إن هناك قائمة طويلة تريدها الولايات المتحدة من السودان قبل إزالة العقوبات)، وقال: (يبدو أن حمدوك يواجه مهام مستحيلة).
ولحصول أمريكا على قائمة مطلوباتها الطويلة، كان لا بد أن تمسك بحمدوك (من اليد التي توجعه)، قال هدسون: (يتعين على حكومة حمدوك قبل إزالة اسم بلاده من القائمة السوداء دفع أكثر من 300 مليون دولار كتعويضات لضحايا الهجوم على السفينة، وأكثر من ملياري دولار كتعويضات إلى أسر ضحايا تفجيرات السفارتين)، والجدير بالذكر أن رئيس العلاقات الخارجية بالكونغرس، طرح أيضاً لحمدوك في لقائه، موضوع التسوية، وسرعان ما أبدى حمدوك استعداده لدفع تلك التعويضات، بحسب صحيفة وول ستريت جورنال 05/12/2019م، حيث قال في لقائه مع الصحيفة: (تحملنا المسؤولية في معالجة هذه المطالبات، والتوصل إلى اتفاق بشأنها)، وقال (بالتأكيد في أسابيع وليس شهور). وهنا انفعصت عُرى الكلام فجاءت أمريكا بفعل قبيح، حيث نجحت في استغلال ضعف الحكومة الانتقالية، وهوانها، فهي سانحة للحصول على مبتغاها، وهي أن لا يفكّر حمدوك في التضييق على الفريق العسكري الموالي لأمريكا، قال مساعد المبعوث الأمريكي الخاص للسودان: (إن احتمالات رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب تحسنت كثيراً شريطة أن يلعب الجيش دوراً حميداً في البلاد والمنطقة). وذهبت أمريكا أبعد من ذلك من أجل مصالحها في السودان، فاعتزمت تبادل السفراء بينهما، بحسب تصريح وزير الخارجية، مايك بومبيو تزامناً مع زيارة حمدوك إلى واشنطن، وقد وصف بومبيو في تغريدة هذا الإجراء بأنه (خطوة تاريخية من شأنها أن تعزز العلاقات الأمريكية السودانية)، (الجزيرة نت 06/12/2019م).
إن أمريكا تتلاعب بمشاعر الحكومة الانتقالية بجزرة صغيرة، وهي رفع مستوى التمثيل الدبلوماسي، وهو ليس مقصود زيارة حمدوك لأمريكا، علماً بأن أمريكا تملك في الخرطوم ثاني أكبر سفارة في العالم كله، اشترت أرضها من الحكومة البائدة، وكان حزب التحرير في حينه، قد قام بوقفة احتجاجية أمام السفارة في ضاحية سوبا جنوب الخرطوم، تزامناً مع مراسم افتتاحها. ثم إن هذه الخطوة - تعيين سفير - هو ترفيع لمقام الجواسيس في هذه الأوكار إلى مستوى أعلى، فهي لا تعني شيئاً بالنسبة لحكومة حمدوك، بل هي خطوة لمراقبة الحكومة الانتقالية عن قرب، مع وجود وسائل ضغط ومراقبة أخرىبيد أمريكا، وفريقها في الداخل.
وخلاصة القول، إن حمدوك قفل عائداً خالي الوفاض، دون أن ينال رضا أمريكا، بل عاد حاملاً التزامات لا يقوى على تنفيذها، في ظل خضوعه لمتطلبات أمريكا المتجددة، ووعودها الكاذبة. وبدلاً من ذلك، كان حرياً به أن يسعى لنيل رضوان الله، بتطبيق أحكامه سبحانه على الناس في الأرض، ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾، وقد يعلم حمدوك أين يجدها، وإن أهل السودان، يتشوقون لرؤية عدل الإسلام في ظل دولته الخلافة الراشدة على منهاج النبوة، لا في ظل مشاريع الغرب المستعمر.
بقلم: الأستاذ يعقوب إبراهيم - الخرطوم
رأيك في الموضوع