بالرغم من عظم التضحيات وشدة المعاناة التي يكابدها أهل فلسطين، وبالرغم من العدد اللانهائي من "القرارات الدولية" المتعلقة بفلسطين ومثلها تلك المؤتمرات الطارئة والعادية المنعقدة من أجل القضية، في محاولة من أصحاب تلك القرارات ومن أولئك المتآمرين لحل القضية حلا عادلاً كما يزعمون، لا زالت قضية فلسطين تراوح مكانها ولا حل لها.
ثورة بعد ثورة، وانتفاضة بعد أخرى، وحروب ثلاث اكتوت بنيرانها غزة، قُتل فيها البشر ودُمر الحجر والشجر، وحصار يكاد يفتك بكل مظاهر الحياة، ولا مبالغة إن قلنا إن أهل غزة هم "الأموات الأحياء".
حتى تلك المساعدات التي تُقدم إلى أهل قطاع غزة بحجة دعمهم وكسر حصارهم، إنما تقدم إليهم كلما وصل الحال بهم إلى الرمق الأخير، وقبل انقطاع النفس، ومع مرور الأيام وتكرر الحالة فاحت منها رائحة المؤامرة، لا سيما ونحن نرى ونسمع أن من يقدم تلك المساعدات يحملها وهو حريص على يهود ومصلحتهم أكثر من حرصه على أهل غزة، وهو ما حذرنا منه أكثر من مرة باعتبار تلك الأموال والمساعدات ما هي في الحقيقة إلا رشى سياسية، وأسلوب يفيض خسة ودناءة في مساومة أهل فلسطين على قضيتهم مقابل قوتهم وقوت أطفالهم ومستقبلهم.
إن انتفاضة الأقصى، والتي ارتبط اسمها بالمسجد الأقصى بعد اقتحام رئيس وزراء كيان يهود في ذلك الوقت أرئيل شارون للمسجد الأقصى، وعمليات التهويد والتدمير المتلاحقة، كانت بمثابة نداء عاجل إلى الأمة الإسلامية، وأهل القوة فيها، إلى الألوف المؤلفة من الجيوش الرابضة في ثكناتها، بأن أقصانا أيها المسلمون في خطر، نداء كُتب بدماء الشهداء والجرحى الذين وصل تعدادهم الآلاف ولا زال يتصاعد، نداء يتصاعد مع كل مواجهة من المواجهات مع قطعان المستوطنين وجنود الاحتلال المدججين بالسلاح على حواجز الموت وفي أزقة شوارع قرى ومدن الضفة الغربية.
انتفاضة الأقصى، وأختها من قبل انتفاضة الحجارة، وما سبقها وما تلاها من أحداث أثبتت لكل عاقل ومخلص ومحب لفلسطين وجاد في سعيهلتحرير فلسطين بأن أس الداء وأساسه هو تلك الأنظمة المجرمة المتربعة على صدر أمتنا، تلك الأنظمة هي التي سلمت فلسطين ليهود بلا ثمن، وهي التي قيدت الأمة، ومنعت تحرك جيوشها لتحرير فلسطين، هدرت الطاقات وبددتها، حرفت الأجيال وأفسدتهم، وأدخلت الجيوش في حروب طاحنة لا طائل منها إلا خدمة للغرب المستعمر وحماية لمصالحه، تلك الأنظمة التي ما انفكت تمارس الضغوط وشراء الذمم، والتضليل بجعل قضية فلسطين قضية وطنية وفصلها عن بعدها العالمي ممثلا بالأمة الإسلامية، وحصر مهمة التحرير في جهود فصائل وحركات لا تملك أمرها فضلاً عن أن تملك القدرة على التحرير وخوض مواجهة حاسمة مع كيان يهود تهدف إلى القضاء عليه، وإنهاء وجوده. هذه هي الحقيقة المرة والتي لا تعني بالمطلق التقليل من شأن ما يبذل من جهود وتضحيات من شباب فلسطين الذين لا يفعلون ذلك إلا مرضاة لله، فلهم كل الدعاء، ومع ذلك لا بد أن يكون مدركاً أن فلسطين لا تحررها فصائل وحركات ألقت بنفسها في أحضان أنظمة جعلت من الخيانة والعمالة سبباً لوجودها، وتفننت في ممارسة الإجرام والطغيان على الأمة لقتل روح الجهاد والتحرر فيها، فحصر العمل لتحرير فلسطين في الإطار الوطني وضمن إمكانيات الفصائل والحركات ما هو في الحقيقة إلا تقزيم لقضية فلسطين، وجعل القضاء عليها وتصفيتها أسهل وأيسر، وهو ما شهدت به الوقائع والأحداث على طول تاريخ القضية وعرضه، وما فعلته وتفعله منظمة التحرير بحجة أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني إلا دليل وشاهد، وعلى رأس تلك الأدلة والشواهد اتفاق أوسلو المشؤوم الذي تترافق ذكرى توقيعه مع ذكرى انتفاضة الأقصى والفرق كبير بينهما، فانتفاضة الأقصى جاءت تأكيداً على أصل القضية بأنها قضية شعب محتل وأرض مغتصبة، وسلطة عميلة، انتفاضة الأقصى كشفت عن سوء اتفاق أوسلو الذي مرر من خلاله الاعتراف بكيان يهود، وولدت من رحمه السلطة الفلسطينية، لتكون سيفاً مسلطاً على رقاب أهل فلسطين، ولتكون الدرع الحامي ليهود عبر سياسة التنسيق الأمني الذي وصل الحال برجالات السلطة إلى تقديسه بوصفه سر حياتهم، سلطة أوسلو التي لا تدخر جهداً في إفساد أهل فلسطين، وممارسة التضليل على الجيل الناشئ بشتى الوسائل في المناهج والإعلام والرياضة وغيرها، سلطة باتت تعتاش على قوت أهل فلسطين وتنهب أموالهم بأساليب عدة، وصار المشروع الوطني بالنسبة لرجالاتها مشروعاً استثمارياً مضمون الأرباح، ولا غرابة أن يتندر البعض باعتبار أن تحرير فلسطين وإنهاء قضيتها ربما يكون خسارة لمشروعهم وانهيارا لطموحاتهم وأحلامهم الجشعة ولفسادهم اللامحدود.
وعود على بدء فإن انتفاضة الأقصى جاءت لتقول إن قضية فلسطين ليست قضية وطنية وليست قضية فصائلية وإنما هي قضية إسلامية، يستدعي حلها تحرك الأمة بوصفها أمة إسلامية، ما يعني وجوب تحرك الجيوش ورفع الغطاء عن تلك الأنظمة العميلة في بلاد المسلمين، والانضمام لصفوف الجماهير والتعبير عن إرادة الأمة التي تتشوق لتحرير فلسطين، وهي قادرة بإذن الله على ذلك رغم كل ما فعله الحكام من إفساد لعقيدة تلك الجيوش القتالية، وتشويه لصورتها في عقول الناس، لتوسيع الفجوة بينها وبين الأمة، إلا أننا على ثقة بأنه إذا ما توفرت الإرادة الصحيحة والجادة والقيادة المخلصة والواعية فإن الأمة وجيوشها ستشكل جبهة داخلية قوية وصلبة قادرة على مواجهة كيان يهود وأية قوة تقف خلفه وستحقق النصر الكاسح الذي يضمن إزالة كيان يهود من جذوره وتطهير الأرض المباركة منه وتخليص الأمة من شروره، ذلك وعد الله فكونوا جنوده ﴿فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً * ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً * إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيراً﴾.
بقلم: الأستاذ خالد سعيد
عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في الأرض المباركة فلسطين
رأيك في الموضوع